عندما تعزف فرق الموسيقات العسكرية فى أى محفل معزوفة نشيد «المارسلييز» الشهير، تتصاعد فى وجدان الجموع الفرنسية وغير الفرنسية ذكريات تاريخية لأكبر ثورة حمراء بلون الدماء التى نزفت خلال الثورة الفرنسية الأم لكل الثورات التى تفجرت بعدها فى أركان الدنيا الأربعة وذلك فى عام 1798 والتى أسفرت أيضاً عن سقوط سجن الباستيل رمز الظلم والقهر. تلك الثورة أفرزتها آراء «فولتير» فيلسوف حرية الرأى والمعتقد وهى نفس الآراء التى حركت جموع الشعب الفرنسى الثائر حالياً فى مظاهرات تزحم الطرقات الباريسية لتندد بالقرارات الحكومية الأخيرة والتى تبنت رفع سن التقاعد لمدة سنتين وذلك بهدف إنقاذ صندوق التقاعد من الإفلاس بعد أن زاد عدد المحالين على المعاش وقل عدد العاملين الفعليين نتيجة للخلل الحاصل فى نسبة المواليد ونسبة الوفيات وما ترتب عليه من زيادة العجز فى عدد العاملين من الشباب، بالإضافة إلى أن هذه الإصلاحات ستؤدى لتلافى العجز الذى قد يصل إلى 45 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020. ويرفض الفرنسيون تحمل تبعات هذه الأزمة لترتفع حرارة هذه الاعتراضات بعد انضمام المراهقين والطلبة لها. لدرجة دفعت بالرئيس ساركوزى لإصدار الأوامر بتدخل قوات الشرطة وقوات مكافحة الشغب لفض تلك التجمعات، وقد تسببت هذه الاعتراضات فى نفاذ مخزون الوقود فى نحو 1500 محطة بنزين وتعطيل حركة السير والنقل فى أكثر من 200 مدينة وقرية فرنسية.وخسائر يومية تتجاوز نصف مليار يورو. وقد تضمن القانون المشبوه الذى وضعه وزير العمل (إريك ورث) مدعوما بشكل تام من الرئيس ساركوزى ورئيس الوزراء (فرانسوا فيون) أن يتأخر سن التقاعد الرسمى من 60 إلى 62 عاماً بحلول عام 2018 و تأخير الحصول على المعاش الكامل التقاعدى من 65 إلى 67 عاماً. وقد أسهم هذا القانون فى تدنى شعبية الرئيس ساركوزى فى الشارع الفرنسى لتبلغ 30% كما جاء فى استطلاعات الرأى التى نشرتها صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية التى أشارت إلى أن هذه النتائج تدخل ضمن حملة الإعداد لمعركة الانتخابات الرئاسية القادمة والتى ستنعقد عام 2012 وهذا يعنى أن ساركوزى سيواجه صعوبة بالغة فى إعادة حشد التأييد الشعبى مرة أخرى. لذا يأمل أن يؤدى الإعلان عن قرب إجراء تعديل وزارى إلى تحسين صورته بالإضافة لرئاسته لمجموعة العشرين التى ستبدأ فى منتصف نوفمبر القادم ليتجاوز بذلك تداعيات قانون إصلاح التقاعد. ويشير هنا المحلل السياسى (ستيفن إيكو مينش) إلى أن تدنى شعبية ساركوزى لاتتعلق فقط بالإصلاحات المؤخرة ولكن بسبب الحرب التى شنها على المهاجرين الأجانب وتزعمه لحملة انتقادات واسعة ضد الغجر الأوربيين، أضف إلى ماسبق ما أثير حول فضيحة تمويل حملته الإنتخابية وما تردد عن حصول حزبه على تبرعات مالية وقد نفى ساركوزى كل هذه الاتهامات. ومع ذلك يتوقع بعض المحللين أن الرئيس ساركوزى قادر على تجاوز هذه الأزمات وأنه سيسعى لإرضاء المواطنين خلال الفترة المتبقية من ولايته ويؤكد هذا الرأى (جان توما لوسور) رئيس معهد توماس مور للأبحاث والذى يصف أداء ساركوزى فى الاقتصاد بأنه لابأس به و يشاركه الرأى (جيروم فروكيه) نائب مدير مؤسسة (أى .إف . أو . بى) لاستطلاعات الرأى الذى يتوقع أن تنحسر هذه المظاهرات قريباً لاسيما بعد أن تصدى ساركوزى بنفسه لإدارة المعركة فى الشارع الفرنسى لذا فلازال ساركوزى هو المرشح الأقوى فى الإنتخابات الرئاسية القادمة على حد قوله. نشأة متواضعة/u/ وعن أصوله فهو ينتمى لأسرة متواضعة لأب مجرى ذى أصول يهودية وأم فرنسية ذات جذور يونانية ويهودية وهو الابن الثانى لهذه الأسرة التى جاءت مهاجرة إلى فرنسا هرباً من بطش الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد ولد ساركوزى عام 1955 وتزوج 3 مرات ولديه 3 أبناء وتعثر فى التعليم الأولى حتى حصل على شهادة فى العلوم السياسية وعمل بالمحاماة قبل أن يبدأ مشواره السياسى وقد تزوج عام 2008 من عارضة الأزياء كارلا برونى بعد قصة حب تناولتها صفحات الجرائد قبل أن يطلق زوجته الثانية وهى تعد السابقة الأولى التى يطلق فيها رئيس زوجته ويتزوج أخرى أثناء فترة ولايته. وفى عام 2002 أصبح ساركوزى عمدة «ينوى سور سين»، وبعد أن أصبح نائباً فى البرلمان شغل عدة مناصب حكومية منها وزير للاقتصاد ووزير للاتصال ثم وزير للداخلية حتى عام 2007 ليرشح نفسه رئيساً للجمهورية. كاريزمة ساركوزية/u/ ومنذ ظهور ساركوزى على الساحة السياسية أصبح ظاهرة كما جاء فى تصريحات أحد كبار الإعلاميين الفرنسيين ويدعى ميخائيل دارمون الذى توقع بأن ساركوزى سيغير حياة الفرنسيين بالطريقة الساركوزية.. فهو استطاع أن يصمد أمام جاك شيراك الذى استطاع أن يقضى على كافة خصومه السياسيين وقد أفلت من هذا الصراع ساركوزى الذى كان يشغل منصب وزير للداخلية فى حكومته بعد أن أوهم شيراك طوال فترة رئاسته بأنه ابن له وإنه احد أذرعته. ويؤكد دارمون فى كتابه بعنوان (الوجه الحقيقى لساركوزى) أنه تربى فى أحضان اشتراكية شيراك وسرعان ما تمرد عليها لينضم للتيار اليمينى المتشدد فى الحزب الحاكم وهو الإتحاد من أجل حركة شعبية وقد اشتهر ساكوزى بقدرته على مناقشة المشاكل التى يعانى منها المجتمع الفرنسى دون مجاملة لذلك استحق اللقب الذى أطلق عليه بأنه بطل قومى لأنه أول من رفع شعار التمييز الإيجابى لاختيار الأفضل من المهاجرين وإدماجهم فى المجتمع الفرنسى الأمر الذى صادف هوى اليمين المتطرف خاصة بعد إعلانه إنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية وقد وصفه المراقبون بأنه يهدف لإغواء أنصار التيار اليمينى المتشدد للحصول على تأييدهم فى الانتخابات القادمة. وقد عرف عن ساركوزى بأنه كثير الهفوات والأخطاء وهو لم يعتذر أبداً عن أى تصريح أو زلة لسان سقط فيها وهو محاط دائما بمسئولين ذوى خبرة ومقدرة بارعة ساهمت دائما فى تحسين صورته أمام العامة، بعد أن تسببت كلماته الجارحة فى إثارة مشاعر الغضب فى الشارع الفرنسى ضد هؤلاء الغجر . ولعل روح الشاب الغجرى (لويجى دوكين) الذى قتلته الشرطة أثناء القبض عليه فى حادث سرقة ليسد رمقه والتى اشتعلت بسببه المظاهرات المطالبة بالقصاص والعدالة الاجتماعية تدفع حكومة ساركوزى للاهتمام بهؤلاء الغجرو المهاجرين لرعايتهم بدلاً من ترحيلهم وقتلهم لتعود فرنسا لسابق عهدها كعاصمة للنور.