لاحظت «سناء» بشكل واضح أن زملاءها فى الكلية، يتجنبون الحديث معها، ويتعمدون، هم والأساتذة المشرفون، عدم إشراكها فى كثير من النشاطات التى ينظمها اتحاد الطلاب، رغم أنه مشهود لها بأنها طالبة ذكية ومتفوقة وموهوبة فى مجالات كثيرة. وبينما هى تحاول أن تعرف السبب، صارحتها زميلة لها - أرادت أن تنبهها إلى أن لديها مشكلة واضحة فى التواصل مع من حولها - أن زملاءها والأساتذة يصفونها بأنها «عدوانية ومتعجرفة»، فهى فى أى مناقشة عادية، لا تلبث أن تحولها إلى مباراة فى إثبات صحة رأيها، وتفنيد نقاط الضعف فى منطقهم، مما يحرجهم، ويرهقهم، ويضطرهم لإغلاق المناقشة بأسرع وقت ممكن. أصيبت «سناء» بحالة من الإحباط والحزن الشديد لأنها تحب الجميع وتحترمهم، وتحترم آراءهم، وتستفيد منها، ولا يخطر على بالها أنها تُغضب أحدا أو تحرجه، فكيف يصل إليهم هذا الانطباع الشنيع عنها؟ صممت بينها وبين نفسها ألا تقع فريسة الإحساس بالشفقة على النفس، والإحساس بأنها «ضحية»، وما إلى هذا من أساليب الهروب من مواجهة النفس. ومن هنا اشتغلت جاهدة لفك هذا «اللغز»، بأن جلست تسترجع تفاصيل مواقف مختلفة، وكأنها تشاهد نفسها، وتشاهد الآخرين، من بعيد كأحداث قصة ليست هى طرفا فيها. استطاعت «سناء» أن ترى أن ملامح وجهها ونبرات صوتها وهى تتحدث يبدو عليها أنها تدافع عن نفسها من شىء ما لا يبدو واضحا لها تماما، أو أنها تشعر بوجود خطر ما يهددها، وتريد أن تحمى نفسها منه.. أى خطر؟ ظلت أياما كثيرة تسأل نفسها ذلك السؤال. وفى لحظات استرخاء تام بعد تدريب التأمل الذى تقوم به بانتظام، وجدت عقلها يسترجع مشاهد من طفولتها حين كانت تقول لها أمها دوما: «أنت لا تفهمين الدرس لأنك أضعف من زميلاتك»، وتذكرت أيضا يوم حرمها أبوها من الاشتراك فى لعبة التنس، وبرنامج السباحة بالنادى، خوفا عليها من الإجهاد. مشاهد ومشاهد من طفولتها ظلت تتراءى أمامها، كلها تقول لها: «أنت أقل من الآخرين». وتذكرت «سناء» أيضا كيف كانت تستيقظ بالليل دون أن يراها أحد لتذاكر وتقرأ مزيدا من الكتب، وكيف كانت تنتهز أى فرصة بعيدا عن رقابة والديها لتلعب كل الرياضات التى كانت تحبها. اكتشفت «سناء» أنها لم تستسلم ظاهريا لما فرضه عليها أهلها من قيود خوفا على صحتها، لكنها فى جزء منها احتفظت بإحساس ما بالخطر.. خطر أن يراها الآخرون «أقل» كما رآها والداها. وأدركت أن ما ظهر منها من «عدوانية وعجرفة»، ما هو إلا صرخة مكتومة داخلها تقول: «أنا أستطيع، وأعرف، ولست أقل من أى أحد». وكان لهذا الاكتشاف أثر كبير فى تحسين قدرة «سناء» على التحاور المتوازن مع الآخرين، وإقامة علاقات ودية وسوية. ماذا يفعل الآباء والأمهات بأولادهم؟/U/ قصة «سناء» واحدة من ملايين القصص التى يظهر فيها كيف يتسبب الوالدان بمنتهى حسن النية فى رسم صورة سلبية للطفل عن نفسه، ورغم أن الكبار لا يتذكرون الصدمات التى أدت لتشكيل صورهم السلبية عن أنفسهم، إلا أنها مُسجلة بوضوح فى خلفية علاقاتهم الإنسانية. وقد بدأت كثير من الكتب المنشورة حاليا تعالج هذه الظاهرة المتكررة، وتقدم للآباء والأمهات المعرفة والمهارات اللازمة لتنشئة أبناء يتمتعون ب»قدرات وملكات» نفسية تساهم فى نمو نفسى سليم، كما توضح الأخطاء التى يقعون فيها، فيصاب الأطفال بعجز عن إقامة علاقات سوية فيما بعد، لأنهم بلا وعي، يركزون فى كل علاقاتهم على أخذ الاحتياجات التى لم تتحقق لهم فى حينها. وأساس الأخطاء التى يقع فيها الزوجان الشابان هى: 1- أنهما لا يدركان مسئولية إنجاب أطفال إلا من الناحية المادية وينقصهما الإحساس بالمسئولية النفسية والروحية. 2- أن المفهوم العميق لمعنى «الأمومة والأبوة» غير موجود، فيكون الدافع للإنجاب نابعا من رؤية محدودة (استكمال مظهراجتماعى، إثبات الرجولة والأنوثة، غريزة حب الامتداد، البحث عن عزوة.. إلخ). فى غياب الوعى يتعامل الزوجان الشابان مع قدوم الطفل على أنه «مشكلة» ستعطلهم عن الاهتمام بمستقبلهم المهنى، فيتمحور اهتمامهما فى إيجاد من (يحمل عنهما هذه المشكلة)، أى يرعاه فى غيابهما، بالمعنى المادى (رضاعة، ونظافة)، وكأن الاهتمام المعنوى بديهة لأنهما (طبعا) يحبانه. والحقيقة فإن المولود يحتاج رباطا معنويا أكبر من الحب الغريزى، فهو يحتاج وعى من أنجباه، بأنه ليس امتدادا جسديا لهما، وإنما هو «نفس» مستقلة تأتى إلى هذه الأرض الغريبة لهدف خاص بها، وأن مهمة المسئولين عنها هى مساعدتها على اكتشاف قدراتها، ومساعدتها على التعبير عن نفسها، ولذلك تحتاج إلى من يطمئنها بأنها بين أيد أمينة، وأنها مرحب بها. الحبل السرى المعنوى/U/ ويشير علماء النفس إلى أنه مع قطع الحبل السرى المادى بعد الميلاد، يحتاج المولود فورا لوجود حبل سرى عاطفى، يكون هو مصدر نموه النفسى على الأرض. وبينما يتكون الحبل السرى فى الحمل بشكل تلقائى ليوصل للجنين الغذاء والأوكسجين وكل ما يلزم عملية نموه، فالرباط العاطفى والنفسى ليس بديهة، ولا يتكون من تلقاء نفسه، وإنما من نوع المعاملة التى يتلقاها المولود من الأم بالذات، ثم الأب، ثم المشاركين فى الرعاية (الجدة، الخالة، المربية). وعدم تكوين هذا الرباط يصيب المولود بتشوهات معنوية، تؤثر عليه فى جميع مراحل حياته. بناء هذا الرباط (الحبل السرى المعنوى) يبدأ باحترام الأم والأب لهذا الكيان الصغير، وتعلم التواصل معه. ولغة التواصل عند الطفل فى السنة الأولى هى التلاصق الجسدى، فعلى الأم أن تدرب نفسها على الحساسية الكافية لبعث رسالات اطمئنان متنوعة له من خلال احتضانه، أو طمأنته بلمسات رقيقة وهى تغير له ملابسه، أو تهدهده للنوم. حين تكون الأم متوترة لأنها تريد أن تتم مهمة الرضاعة والغيار والنوم سريعا لتجرى إلى عملها أو أى شىء آخر، تصل للطفل الطاقة بأنه غير مرغوب فيه، وأنه كم مهمل، وأنه فى عالم غير آمن. من هنا فوعى الأم عن أهمية هذه المرحلة الأولى أساسى، ويجب أن يعطى المولود أهمية مطلقة. وليس الأمر مجرد تواجدها جسمانيا، وإنما التواجد بالفهم والوعي، لأن غياب الوعى معناه بعد عاطفى عن المولود، وحرمانه مما يحتاجه. إدراك الأم والأب الشابين بجلل المسئولية يجب أن يدفعهما لترتيب ظروفهم العملية، فيتعاون الأب مع الأم، ولا يحملها فوق طاقتها لأنها بطبيعة الحال تحتاج إلى المشاركة المعنوية، والمادية أيضا لأنها لو أجهدت فوق طاقتها سينعكس ذلك على عطائها لطفلها. باختصار إعداد الأم والأب لنفسيهما مهم جدا لأن حياتهما تحدث فيها تغييرات كثيرة مثل عدم انتظام النوم، وعدم الحرية الكاملة فى الحياة الاجتماعية، وأيضا فى علاقتهما الشخصية. الوعى والاستعداد يجعلهما يحولان كل تحديات هذه الفترة إلى تجربة جيدة وجميلة تقرب بينهما أكثر، بدلا من الشكوى المستمرة الناتجة عن وعى غير سليم مفاده: (نريد إنجاب طفل ولكن لا نريد أى تعب ولا تضحية بالنوم أو الحرية أو الاستمتاع بكل ما كنا نستمتع به ونحن وحدنا). توافر هذا الوعى يساعد فى إعطاء المولود السلام والاطمئنان، اللذين إن لم يتوفرا سيظل يبحث عنهما طوال عمره. ومازلنا نتساءل: هل معنى ذلك أن كل متاعبنا ونحن كبار سببها الوالدان؟ وهل إذا اكتسب الوالدان هذا الوعى يستطيعان إصلاح ما أفسداه من قبل؟ وكيف يساعد الإنسان نفسه إن لم يكن قد تلقى احتياجاته الأساسية من أبويه؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله.