تجلس الدكتورة عالية المهدى على الكرسى الذى جلس عليه من قبل، الدكاترة: رفعت المحجوب، وأحمد الغندور، وعلى الدين هلال، عمداء لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهى تحاول أن تعيد هذه الكلية المرموقة إلى ما كانت عليه فى السابق، حين كان رؤساء الدول، إذا جاءوا القاهرة، ذهبوا إليها ليخاطبوا نخبة الأساتذة والطلاب، ويحصلوا على أرفع الأوسمة! والدكتورة عالية تكتب قليلاً، وتعمل فى مكتبها طويلاً، وهى مهمومة بقضايا كثيرة، ترى أنها نقطة البداية نحو أى نهضة حقيقية بهذا البلد، ولو أنها توقفت عن الكتابة، من الآن إلى ما شاء الله، لكان فى المقال الذى كتبته فى «الأهرام»، الأحد الماضى، ما يكفيها.. ويكفينا! كانت فى مقالها تروى قصة مثيرة بقدر ما هى محزنة لنا، والقصة بدأت حين كانت عميدة العلوم السياسية فى زيارة لألمانيا منذ ثلاث سنوات، وكانت تقيم فى بيت أسرة صديقة، وقد لاحظت أن رب الأسرة مهموم إلى درجة لم يكن يستطيع معها أن يخفى همومه، وسألته عن سبب الهم البادى على وجهه، وكم كانت دهشتها حين عرفت منه أن السبب هو أن ألمانيا كانت طول عمرها تأتى بين أعلى 5 دول فى العالم، من حيث مستوى خريج التعليم المدرسى (لا الجامعى) فيها، ولكنها فى تلك السنة، أى فى اللحظة التى كان الرجل مهموماً فيها، جاءت فى المرتبة العاشرة، وكان هذا هو سر همه وحزنه! ولم تكن هذه هى القصة كلها، ولكن كانت لها بقية مهمة للغاية، هى أن الدولة التى احتلت المرتبة الأولى، فى قائمة جاءت فيها ألمانيا فى الدرجة العاشرة، كانت هى كوريا الجنوبية! وربما كان الشىء الذى أحزن عميدة العلوم السياسية، أن كوريا الجنوبية، فى بداية الستينيات، كانت تتشابه إلى حد كبير معنا، من حيث متوسط نصيب المواطن، من إجمالى دخل بلده، ومن حيث خطط التنمية، ومن حيث أشياء أخرى كثيرة، بينها عدد السكان وقتها مثلاً، وكان المنطق يقول إننا فى عام 2009 يجب أن نكون فى الموضع نفسه الذى تقف فيه الآن كوريا.. فإذا بها فى السماء، وإذا نحن تحت الأرض! فماذا حدث؟!.. أدركت كوريا الجنوبية أن السر، الذى لا سر سواه، هو التعليم، ثم أدركت شيئاً آخر، لا يقل أهمية، وهو أنها لا تستطيع أن توفر تعليماً مجانياً جيداً، مع وضع مليون خط تحت كلمة «جيداً» لجميع طلابها وتلاميذها، بحكم ما لديها من ميزانية محدودة بطبيعتها، وكان قرارها، المبكر جداً، أنها وجهت ميزانية التعليم كلها إلى التعليم الأساسى، أى ما قبل الجامعى، بحيث يكون تعليماً مجانياً، بالكامل، ويكون على أعلى مستوى ممكن من الجودة العالمية، فكانت الحصيلة تفوقها على ألمانيا ذاتها!.. أما التعليم الجامعى فهو بمصاريف يدفعها الطالب، فيما عدا المتفوقين الذين يحصلون على تعليم جامعى مجانى! تنتهى الدكتورة عالية إلى أن هذه هى «الروشتة» الوحيدة المُتاحة لنا، إذا كنا نريد حقاً، أن يكون لنا ترتيب مشرف بين الدول، وتنتهى إلى أن تعليمنا الحالى يستحيل أن يستمر على ما هو عليه، والموضوع ليس كيمياء معقدة، وإنما هو أن كوريا فعلت فأصبحت حيث هى، ونحن لم نفعل فانحدرنا إلى حيث نحن الآن! تعرف الدكتورة المهدى أن ما تطرحه صعب، ويفتح عليها أبواباً من النار، ولكن منذ متى كان العلاج أى علاج حلواً؟! وفى اليوم نفسه الذى نشرت فيه «الأهرام» هذا المقال الأهم من كل ما عداه كان صفوت الشريف، يقول إن الرئيس سوف يستعرض، خلال ساعات، أوراق مؤتمر الحزب الوطنى، الذى بدأ أمس الأول، ويواصل أعماله اليوم، وكم كنتُ أتمنى، لو كان هذا المقال، الذى هو «روشتة» فاصلة، قبل أن يكون مجرد مقال فى صحيفة.. كم تمنيت لو أنه كان بين الأوراق التى عرضها «الشريف» على الرئيس ليناقشه مؤتمر الحزب، فإذا كانت هذه فرصة قد فاتت، فنتمنى لو وصل المقال إلى مكتب الرئيس، من خلال الذين يجب أن يعرضوا عليه ما تنشره الصحف بأمانة! فإذا عرفنا أن صاحبة المقال قيادة بارزة فى الحزب الوطنى، كانت المسؤولية عليه مضاعفة، مرة تجاه نفسه، وأخرى إزاء بلده!