الكم الهائل لكتابات العالم والفيلسوف فخر الدين الرازي (أبو عبدالله محمد بن عمر فخر الدين الرازي 544/ 1149 606/1210) جعله من أبرز المرشحين لأن يكون أكثر علماء وفلاسفة المسلمين غزارة في الإنتاج، وكذا جعل دارس فكره تحت ثقل هائل أكثر منه بالنسبة إلى مفكرين مسلمين كبار آخرين، ومن ثم الأقل تناولًا بالدراسة. ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب "الأخلاقيات الغائية عند فخر الدين الرازي" للدكتور أيمن شحادة، رئيس فريق البحث في العلوم الإنسانية في جامعة نيويورك - أبوظبي، حيث يقدم مقاربة تحليلية للفكر الغائي الأخلاقي عند الرازي، متناولًا أهم أوجه فكره، ونظريته الأخلاقية، وكاشفاً عن أهم التوجهات والمناقشات حول تراثه الفكري الواسع في الوقت نفسه. يضع د.شحادة في البدء نبذة عن سيرة الرازي، ووصف مختصر لببليوغرافيا أهم كتاباته موضع التحليل في الكتاب. حيث يشير إلى أنه "أبو عبدالله محمد بن عمر فخر الدين الرازي، ولد سنة (544/ 1149) في مدينة الري ووالده أحد أشهر خطبائها، والده هو ضياء الدين (ت 559/1164)، كان شافعيًّا وأشعريًّا مرموقًا، وكان الأستاذ الأوّل لفخر الدين في كلٍّ من علم الكلام والفقه. سافر الرازي كثيرًا خلال حياته، ولاسيّما في فارس، ومناطق من آسيا الوسطى وشمال الهند.. حكايات أسفاره تنقل أيضًا النقاشات التي كانت له مع معارضيه من مختلف المدارس اللاهوتية، ولاسيّما الكرامية والمعتزلة والحنابلة. وقد جلبت له الشهرة قدراته الكبرى في المناظرة. وقد سجّل هو بنفسه مناظراته في مجموعة خاصّة هي كتاب المناظرات، وبعضها الآخر يحيل إليها في مصادر لاحقة. وفي أحد مناظراته مع رائد الكرامية في فيروزكوه، وهي عاصمة فرع من الغوريين، انتهى الأمر إلى نشوب الفوضى، ما اضطره إلى المغادرة لقد بلغت درجة عداء هذه الطائفة له إلى أنه أوصى وهو على فراش الموت بمواراة جثمانه بعيدًا بطريقة سريّة خوفًا من أن يحفر عليه أنصارها، ويمثلوا به. وقد توفي الرازي في (606/1210) في هرات. يقول د.شحادة في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود وترجمته د.ماجدولين النهيبي إن القرون الإسلامية الأولى عرفت ظهور مدارس مختلفة للفكر الأخلاقي، برزت خلالها مجموعة من النظريات الأخلاقية المتباينة، وقد نمت أكثر هذه النظريات رقيًّا في إطار مدرستي الكلام والفلسفة المستقلتين، واللتين اختلفتا في مجال الأخلاقيات، وكذا في مجالات أخرى بما فيها الميتافيزيقا، وعلم الكون، وعلم النفس، والإبستمولوجيا. ويشير إلى أن البحث في طبيعة العدل الإلهي وأفعاله الخَيِّرة بصفة عامة كان أبرز الموضوعات التي نالت اهتمام مدرسة المتكلمين الكلاسيكية في هذا المجال. وقد قارب المتكلمون هذا الموضوع عبر مناقشات تحليلية للغة الأخلاقية، والميتافيزيقا والإبستمولوجيا. وتوجد مناقشات مشابهة ركزت على العمل في أصول الفقه، واهتمت بوضع المبادئ المعيارية العامة للسلوك البشري، وقد اهتمّ الفلاسفة، من جهتهم، أساسًا، لكن ليس بتغير الطبع البشري فحسب، وذلك عبر تحديد فضائل تعدّ أساسًا خصائص فردية داخلية. ويرى د.شحادة أن الهوّة التي فصلت بين المدرستين كانت واسعة جدًّا في البداية، لدرجة أن كثيرًا من المفاهيم، التي عُدّت مركزية في النظرية الأخلاقية لإحدى المدرستين، كانت بعيدة جدًّا عن نظيرتها في الأخرى؛ بل مرفوضة تمامًا في غياب أيّ حوار بينهما. بعد ذلك ظهرت علامات للتفاعل الإيجابي تدريجيًّا بين الكلام والفلسفة، وبلغت ذروتها في أعمال الغزالي (ت 505/1111)، الذي وجه نقداً صارماً للفلاسفة، متأثراً بهم بعمق في الآن نفسه. بعد قرن من الزمن، فتح فخر الدين الرازي الأبواب على مصراعيها، سانحًا بتبادل فكري أكثر حرية؛ بل باندماج بين الكلام والفلسفة. ونجد تجليات لذلك في مباحثه الأخلاقية أكثر من مجالات أخرى في فكره. وهكذا يعدّ هذا الكتاب الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه قدمها المؤلف قبل سنوات بجامعة أكسفورد، تحليلاً لفهم أهم أوجه فكر الرازي ونظريته الأخلاقية، وكشفًا عن أهمّ التوجهات والمناقشات حول تراثه الفكري الواسع في الوقت نفسه، كما يتبين من خلالها أن الرازي وضع أسس نظرية أخلاقية متطورة وأصيلة، راقية وبالغة التناسق أيضًا، ويلتقي الرازي في نظريته أيضًا مع الكسب الأشعري. من هذا المنظور وفقًا للدكتور شحادة يكتسي الرازي أهميته لا بوصفه باحثًا في الأخلاق من البدهي أن الغزالي أقرب منه إلى ذلك بل بالأخص بوصفه فيلسوفًا ومحللًا أخلاقيًّا متميّزًا. وفي هذا الصدد، تعدّ موضوعاته الأخلاقية من بين أعمق الموضوعات في تاريخ الإسلام، وتلتقي بمناقشات المعتزلة في كثير من الأوجه. ويعود ذلك، أساسًا، إلى قربه وانخراطه في كتابات المعتزلة، ولاسيّما منها مدرسة أبي الحسين البصري (ت 436/1044)، وقد ورد إلى حدٍّ غير مسبوق ضمن انتقاداتهم المتقدمة (وهو ما لم تتمكن المدرسة المتأخرة للسُّنّة من تجاوزه، ويعدّ المعتزلة في نظرها أقلّ ملاءمة). للرازي أيضًا تأثير كبير في الفكر الأخلاقي الإسلامي اللاحق، ولاسيّما في علم الكلام والأعمال الخاصة بعلم الأخلاق. وقد ذُكِر كتاب في علم الأخلاق من لدن ابن الأكفاني (ت 749/1348) أحدَ أبرز الأعمال من نوعه (مع أن رواجه بدا محدودًا في القرون اللاحقة). ويضيف أن الرازي يطور نظرية ميتا - أخلاقية تتضمن كلّاً من أخلاقياته الفلسفية حول الطبع، وعلم الكلام وأخلاقيات الفعل. وتتمظهر هذه النظرية الكامنة بشكل مختلف في هذين السياقين المختلفين: تتجلى كسببية في علاقتها بالفعل، وكاكتمالية في علاقتها بالطبع. لكن، في مستوى الأخلاقيات المعيارية تبقى معالجته للعلاقة بين أخلاقيات الفعل وأخلاقيات الطبع غير متطورة بما يكفي في بعض جوانبها. وتبدو العلاقة بين الاثنين في المستوى الميتا - أخلاقي واضحة؛ فالسببية والاكتمالية مظهران للأخلاقيات الغائية أكثر من كونها نظريات أخلاقية منفصلة. وقد تمّت مناقشة هذين المجالين من الاكتساب الأخلاقي بصفة مستقلة في كتابات الرازي لأسباب متعددة، أوّلها تركيز المتكلمين الكلاسيكيين على الفعل دون غيره، نظراً لاهتمامهم بالبحث في كيفية ارتباط أفعال الله بمخلوقاته. وقد ناقش الرازي أيضًا الفعل الإلهي؛ إذ قاربه على أساس تحليل دقيق للفعل البشري. إضافةً إلى أنه، عند تطويره نظريته في الأخلاق، اشتغل في إطار مقاربات قوية متباينة، لكلٍّ منها وجهة نظره وروحه الخاصة. كما أنه لم يحاول إقامة مزج بين علم الأخلاق والفقه، مع أنه لم يقدم بعض الخطوط العامة لكيفية النظر إلى العلاقة بين أخلاقيات الفعل وأخلاقيات الطبع. أول ما ينطلق منه د.شحادة في فصلي كتابه الأول والثاني هو أخلاقيات الفعل عند الرازي حيث يتفحّص نظريته في الفعل باعتبارها نظرية مركزية في ميتا - أخلاقياته، وبما أنه بدأ فقيهًّا أشعريًّا كلاسيكيًّا له اهتمام طفيف بفحص الطبع سيكون لاهتمامه بالفعل سبق زمني في مساره الفكري. وفي فكره المتأخّر، أيضاً، لا يستدعي تحليله للفعل نظرية مسبقة للطبع "كان ذلك سيعطي أولوية أخلاقية للطبع على الفعل"، مع أن مقاربته ستستكمل بنظرية كهذه. ويعالج في الفصل الثالث نظرية الرازي للفضائل متضمنةً، أيضاً، أخلاقيات الطبع، إضافةً إلى تأثير نظرية الفضائل في نظريته حول النبوّة لاحقًا. يركز في الفصل الرابع على رسالة ذم لذات الدنيا، والتي يتم تضمينها محققة كملحق بالكتاب، وهي موضوع دراسة لأوّل مرة، حيث يرى د.شحادة أنها نص بالغ الأهمية، والذي كتبه الرازي في نهاية حياته، يعبّر عن تشاؤم أخلاقي وعن تشكيك فكري معلنَيْن.