جلستُ مع مجموعة من الأصدقاء نتحدث عن الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام. وبعد أن انتهينا من ذكر أسباب نشأته وتباحثنا حول قضاياه التى أثارت الخلاف بين المسلمين، وكانت أولاها قضية حُكم مرتكب الكبيرة التى اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصرى وعلى أثرها صار الشقاق بينهما واستقل «واصل» بفكر جديد نشأت عنه مدارس فكرية كثيرة. ومن تلك القضايا الخلافية كانت قضية رؤية المؤمنين لله تعالى يوم القيامة، التى نفاها المُعتزلة، وقضية خلق القرآن، وهل العالم قديم، أى هل وجد مع الله، أم أنه خلقه، وهل أفعال الإنسان مخلوقة من الله، أم أنها من فِعل الإنسان.. وغيرها من القضايا الوجودية الحادة التى عُنى بها «علم الكلام» الذى يُعرّف أنه الفِكر الذى يسعى لإثبات العقيدة الدينية من خلال الحجة والبرهان العقليِّيَن. بعد أن انتهى النقاش، شدّنى تعليق أحد الحاضرين عندما اتهم المتكلمين بأنهم أضاعوا أوقاتهم وعقولهم بمناقشة قضايا لا يضر الإنسان الجهل بها ولا تنفعه معرفتها. فماذا سيتغير إذا علم أن كلام الله مخلوق وليس قديماً، أو العكس؟ قلتُ لصديقى إن هذه القضايا قد تبدو مضيعة للوقت عند نشأتها، ولكن بسببها تشكلت تيارات فكرية عديدة خلال مئات السنين، ونشأت الفلسفة الإسلامية التى عُنيت، إلى جانب الحوارات اللاهوتية، بالنظريات السياسية والعلمية والاجتماعية، بدءاً بالكندى وحتى ابن خلدون. فتطورت المعرفة، وظهرت الاختراعات وتوسعت المعارف الإنسانية. الأهم من هذا كله أن هذه «الجدليات» استُخدمت لاحقاً للرد على من وُصِفوا بأنهم كُفار وملاحدة وزنادقة، كابن الراوندى، والطبيب أبوبكر الرازى، والكيميائى جابر بن حيان، والفيلسوف أبى نصر الفارابى، والطبيب الفيلسوف ابن سينا، والأديب عبدالله بن المقفع وغيرهم. فلقد أدى ظهور الإلحاد فى التاريخ الإسلامى إلى قدْحِ كثير من الأفكار والأطروحات الوجودية فى عقول المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة الذين انبروا للرد عليه باستفاضة وزخم، أديا إلى تثبيت الإيمان وتعزيز العقيدة لدى جمهور المسلمين، مستندين إلى علم الكلام الذى يستنبط الأدلة العقلية باستخدام أدوات منطقية كالاستقراء (أى تتبع الجزئيات وملاحظاتها وفحصها لتشكيل تصور كلى عن شىء أو نظرية ما فى الحياة) ومبدأ العِلّيّة (أى العلة من حدوث الأشياء وأسباب حدوثها) ومبدأ العلل الأربع فى منطق أرسطو، وغيرها من أدوات المنطق التى يضيق المجال عن شرحها. كل هذه الأدوات استخدمها المتكلمون لإثبات الإيمان رغم أنهم مؤمنون راسخون. ولهذا قيل إن الفيلسوف يتساءل، ثم يؤمن، أما المتكلم فيؤمن ثم يتساءل. فالمتكلم لا يقف عند حد الإيمان القلبى المتوارث كما يفعل الفقيه أو المتصوف، ولا يضع الإيمان تحت مشرط التجربة والبُرهان فقط كما يفعل الفيلسوف، بل يدعمه بأدلة عقلية استنباطية تجعل المعتَقَد أكثر إقناعاً. ورغم أن الإمام مالك انتقد المشتغلين بعلم الكلام، فإننا نعذره فى ذلك، لأن الأمة حينها كانت قريبة عهد بالنبوة، وكان الإيمان لا يزال راسخاً فى القلوب ولا حاجة للخوض فى تلك المسائل الوجودية المعقدة. لكن مع دخول ثقافات مختلفة فى الإسلام وامتزاج الشعوب وتلاقح الأفكار، ناهيك عن انفتاح عالم اليوم بشكل مهول وتداخل المفاهيم والقيم والمبادئ، صار الناس أحوج ما يكونون لهذا العلم الذى قد يكون بعد زمن قصير الحل الوحيد للحفاظ على إيمان المجتمعات. وأكاد أجزم أن الإمام مالك لو عاد اليوم لغيّر رأيه فى علم الكلام. إن ما يعانيه العقل الإسلامى اليوم، سواء على مستوى علماء الدين والنخب، أو على مستوى رجل الشارع البسيط، هو معاناة ضعف استيعاب أو فهم معقول للمعانى الكونية والأسئلة الوجودية الكُبرى، ومن ثم معاناة أخرى فى ربط تلك المفاهيم بالنصوص الشرعية، ثم تنزيل ذلك الفهم على الواقع. كما أن أزمة الإلحاد والتساؤلات الوجودية التى تلح على الشباب المسلم اليوم لم تلقَ اهتماماً من قبل علماء الدين الذين تابعتُ مجموعة منهم، فوجدت ردودهم غير عقلية وبالتالى ليست مقنعة للشباب المتسائل بإلحاح. اطلب من أحد العلماء اليوم أن يثبت لك وجود الخالق أو يثبت النبوة دون الرجوع إلى النصوص الشرعية وسيرتبك. ولذلك، فإن فكرة عودة الجدل وحدها كفيلة بتكسير أصنام المعرفة المتكلسة داخل الذاكرة الإسلامية. والجدل المتمثل فى علم الكلام لا يعنى الحوارات الوجودية والعقدية فقط، بل يعنى أيضاً فتح الباب على مصراعيه لإخضاع المفاهيم الجامدة والأفكار القديمة لمشرط النقد، حتى يعود الإيمان الراسخ المبنى على العقل. نحن فى حاجة إلى تشجيع الأفكار المختلفة واختبار مدى صلاحيتها وجودتها لعصرنا، ولا أخص بذلك الأفكار القديمة فقط، بل حتى الآراء الحديثة التى أدى كثير منها للتطرف والعنف والإلحاد. لندع الناس تتحدث وتنتقد وتتساءل، ولتكن الردود قائمة على الحجة والبرهان. سألتُ أحد كبار علماء المسلمين مرة: متى تعود الأمة إلى رُشدها فقال: «عندما يعود علم الكلام».