قد يتشابه لقبه "الرازى" مع كثير من علماء المسلمين، ولكنه تميز عنهم بكونه "فخرًا للدين"! حرص فخر الدين الرازى على أن يغرد منفردًا بأسلوبه الخاص في مواجهة أفكار معارضيه بعيدًا عن سرب علماء زمانه، وقرر أن تزخر حياته بالجدل والنقاش، وشغف بالعلم فتبحر في مجالاته وفروعه ليصبح عالمًا موسوعيًا وموسوعة دينية تُثار حولها التساؤلات حتى عصرنا الحالى، ولم تكن عقيدته بمنأى عن هذه التساؤلات والشكوك لكثرة ما تعرض للاتهام فيها، وساهمت أفكاره في تمهيد السبيل للتشكيك في عقيدته واتهامه في دينه. هو مفسر وفقيه وأصولى وكذلك أديب وشاعر وطبيب، كان من أبرز علماء زمانه في العلوم الشرعية والعربية وعلم المنطق والفلسفة والحكمة وبرع أيضًا في العلوم الرياضية، إنه محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن على، المُلقب ب"فخر الدين" والمكنى بأبى عبد الله الرازى نسبة إلى مدينة الرى التي ولد بها عام 544ه الموافق عام 1150 م، والتي تقع في الجنوب الغربى من طهران العاصمة الإيرانية حاليًا. نشأ "الرازى" في بيت علم، فقد كان والده "ضياء الدين عمر"، خطيب الرى وعالمها، وأحد أبرز علماء عصره في علمى الخلاف والأصول وكان المُعلم الذي تلقى "الرازى" على يديه "علم الكلام"، وبسببه شغف بالعلم وانكب على الدرس والتحصيل، واستطاع في فترة وجيزة استيعاب كثير من كتب المتقدمين. حرص "الرازى" على التجول في أرجاء المدن الإسلامية الشرقية للاستزادة في المعرفة والعلم، وحينما نضج أصبح إمامًا في العلوم الشرعية ولا سيما في الفقه والأصول والتفسير، وأصبح صاحب مجلس علم يأتى إليه طلاب العلم والعلماء من كل حدب وصوب، بالرغم من أن جمهورًا من العامة كان يرميه ب"انحلال العقيدة". كان الرازى ذا ثروة ومماليك واحترام لدى الملوك، وصنف عشرات الكتب في جميع علوم عصره فذكر "ابن كثير"، أنه كتب مائتى مصنف، وكان الناس يقبلون على كتبه في حياته يدرسونها، ومن أبرز مؤلفاته: "التفسير الكبير"، و"الأربعين في أصول الدين"، و"شرح عيون الحكمة لابن سينا"، و"عصمة الأنبياء"، و"الملخص في المنطق والحكمة". توفى الرازى في هراة عام 606 ه الموافق عام 1210 بعد مرض استبد به، بينما قالت رواية أخرى إنه مات مسمومًا بعدما أحلت دمه إحدى الفرق المناظرة له، وقيل إنهم سموه أو دسوا عليه من سمه. جدال وخصومة عاش الإمام الرازى 62 عامًا مملوءة بالمناظرات والمجادلات مع سائر الفرق المخالفة لعقيدته الأشعرية، ولقي جراء ذلك الكثير من المتاعب، وقاومته جميع الفرق التي جادلها وناظرها وبالغوا في كراهيتهم له بقدر تعصبهم لمذاهبهم وآرائهم. قيل إن طائفة " الكرامية" استباحت دمه، بينما استباح "الحشوية" عرضه فكانوا ينالون منه ومن أسرته، وكرهه "المعتزلة" وحاولوا اضطهاده، ورأى بعض أهل السنة في أسلوبه في الرد على الخصوم أسلوبًا مخالفًا لما ألفوه فامتنع الكثيرون عن نصرته. كان أسلوبه يعتمد على تقرير جميع شبهات الخصوم ثم هدمها مرة واحدة، ويشبه في ذلك الأسلوب الذي اتبعه الإمام الغزالى مع الفلاسفة، ولم يؤثر عن الرازى أنه سب من تباحث معه اللهم إلا ما كان من مجادلته مع ابن القدوة الكرامى فقد ذكر المؤرخون أن الفخر سبه أثناء تواجده في هراة عام 595 ه، ولقد استغل أحدهم هذا الموقف ليُثير الكرامية ويُشعل فتنة انتهت بإرسال السلطان، الذي كان قد استقبل فخر الدين استقبالا عظيمًا، الجند حتى تهدأ الفتنة وأمر بخروج الرازى من هراة. عقيدته واتهامه كان الإمام الرازى أشعرى العقيدة، شافعى المذهب، وعلى ذلك اتفق معظم من ترجموا له أو كتبوا عنه، ولكن الحرب التي شنها عليه خصومه تناولت عقيدته بالتشكيك، فقد حاول خصومه إخراجه من أهل السنة والجماعة، وإن كانت جميع كتبه ومواقفه زاخرة بما يشهد له بأنه واحد من أئمة أهل السنة والجماعة في ظل تصريحه هو بنفسه لذلك على نحو قوله " وقد علم العالمون أنه ليس مذهبي، ولا مذهب أسلافى إلا مذهب أهل السنة والجماعة"، وبالرغم من هذا إلا أن خصومه لم يكفوا عن اتهامه بالانحراف عن السنة، ولقد رد على هذه الاتهامات بقوله "إن الأعداء والحساد لا يزالون يطعنون فينا وفى ديننا مع ما بذلنا من الجد والاجتهاد في نصرة اعتقاد أهل السنة والجماعة، ويعتقدون أننى لست على مذهب أهل السنة والجماعة، ولم تزل تلامذتى وتلامذة والدى في سائر أطراف العالم يدعون الخلق إلى دين الحق، والمذهب الحق، وقد أبطلوا جميع البدع". اتهامه بالتشيع بالرغم من أن الاتهامات التي طالت عقيدة الرازى اتخذت أشكالًا مختلفة، إلا أنها جميعًا كانت تؤول إلى هدف واحد وهو نفى كونه واحدًا من أهل السنة والجماعة، ولعل أبرز التهم التي وجهت إلى عقيدة الرازى واعتبر بموجبها مخالفًا لأهل السنة والجماعة هي تهمة التشيع، فقد نقل ابن حجر في "اللسان" عن "ابن الطباخ" أن فخر الدين الرازى كان شيعيًا يقدم محبة أهل البيت لمحبة الشيعة، وكان يقرن اسم الإمام على بقوله "عليه السلام" وكذلك يفعل عند ذكر أهل البيت، وأنه أقر بوصف جماعة الشيعة الإمامية لعلى بن أبى طالب بأنه الإمام المعصوم وصاحب الزمان، غير أن الإمام الشافعى نفى عنه تهمة التشيع واشتد إنكاره لها وبالغ في نفيها عنه في كتابه "مناقب الشافعى"، وعبر الإمام عن حبه لآل بيت رسول الله بأشعاره وفرق بين حب آل البيت ومناصرتهم مع حب أصحاب رسول الله صلى الله كما هو مذهب أهل السنة، وبين التشيع والرفض اللذين يخالفان جماهير المسلمين في الإمامة والبيعة والتقية وتفضيل الإمام على على سائر الصحابة ورفض إمامة الشيخين أبو بكر وعمر بن الخطاب. ولى الشيطان شن ابن تيمية حملة شعواء على فخر الدين الرازى وحصر مصادر ثقافته ببضعة كتب، ونفى عنه معرفته بكتب الأقدمين وأكد أن الرازى لم يطلع على أقوال أئمة الفقه والحديث والتصوف وغيرهم من علماء المسلمين فضلًا عن عدم إطلاعه على أقوال الصحابة والتابعين. كان ابن تيمية ينظر إلى فخر الدين على أنه واحد من أولياء الشيطان، وقال عن كتابه "الاختيارات العلائية" إن هذه الاختيارات لأهل الضلال، واعتبر مؤلفه "السر المكتوم" كتابًا في عبادة الكواكب والأصنام، وربط بين تأليف الفخر لهذا الكتاب وبين دخول التتار ديار المسلمين، كما أدرج ابن تيمية فخر الدين في زمرة من أظهر الإلحاد والنفاق والبدع، ورد الكثيرون عن الرازى هذه التهمة من خلال التأكيد على أن الأخير كتب في مقدمة هذا الكتاب إنه يهدف من خلال المعلومات التي يقدمها في كتابه "السر المكتوم" إلى تعريف الناس بما اجتمع لديه من علم السحر والطلاسم، مع التبرؤ إلى الله من كل ما يُخالف الإسلام منه. مجدد القرن السادس وبالرغم من كل تلك التهم فإن ابن السبكى روى في طبقاته حديث أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال "يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وذكر أن الإمام ابن حنبل قال، عقب ذكره الحديث، إن مجدد المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وإن مجدد المائة الثانية الإمام الشافعى، ثم ذكر ابن السبكى الآخرين إلى المائة السادسة فقال والسادس هو الإمام فخر الدين الرازى ويحتمل أن يكون الإمام الرافعى، وفى ذلك إشارة إلى مكانة فخر الدين الرازى في تاريخ الإسلام، ما يطعن في جميع الاتهامات التي تواترت للنيل منه ومن عقيدته ومن علمه الذي لا يزال ينفع الناس. المصادر: ◌ ابن العماد شهاب الدين ابى الفلاح، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، المجلد السادس، دار ابن كثير للنشر. ◌ فخر الدين الرازى، عصمة الأنبياء، دار الكتب العلمية للنشر. ◌ طه جابر العلوانى، فخر الدين الرازى ومصنفاته، دار السلام للطباعة والنشر، 2010.