تاريخيا، تعود بداية المسرح الثوري في العالم العربي إلى أوائل الخمسينات، وتحديدا إلى الفترة التي أعقبت ثورة يوليو في مصر عام 1952، حينما أخذت تظهر تجارب مسرحية تتمحور حول فكرة الثورة بدلالاتها السياسية والاجتماعية والثقافية. وكانت فرقة “المسرح الحر”، التي تأسّست في القاهرة بعد شهرين من الثورة، أول فرقة سعت إلى تقديم مسرح مختلف يتناغم وأفكار الثورة، ويدعو إلى إحداث تحوّلات وتغييرات اجتماعية. وفي العراق كتب يوسف العاني عام 1954 مسرحية “آني أمك يا شاكر”، متأثرا برواية مكسيم غوركي الشهيرة “الأم”، وأحداث فترة سياسية شديدة الاحتقان في البلد هي الفترة التي حدثت فيها مجزرتا سجني بغداد والكوت، لكن المسرحية لم تُقدم إلاّ بعد 14 يوليو 1958، حين أعيدت لفرقة “المسرح الحديث” إجازة ممارسة العمل. وتُعد علاقة الثورة بالمسرح في الجزائر عريقة وقديمة، فقد نمت وترعرعت منذ البدايات الأولى حتى أصبحت الثورة أحد اتجاهاته وألوانه، وشكّلت الأحداث الثورية مصدرا يستلهم منه مادته، ويقتبس منه. وكانت مسرحية كاتب ياسين “الجثة المطوقة” عام 1958، باللغة الفرنسية، أول مسرحية ثورية استلهمها من أحداث 8 مايو 1945. وفي سوريا كتب وأخرج المسرحي الفلسطيني نصرالدين شما لجمعية المسرح العربي الفلسطيني مسرحية “الطريق”، التي عرضت عام 1968 في دمشق وعدد من الدول العربية، وأثارت سؤلا محددا بعد عشرين عاما من نكبة 48 “ما العمل الآن؟ وكان الجواب الذي قدّمته المسرحية هو: الثورة، منهاجا، وضرورة، وممارسة، وهكذا جاءت ليس مجرد دعوة إلى الثورة بل كانت هي الثورة ذاتها، تسير إلى الأمام وتحكي عن ثوار يصنعون ثورة. واستبطن سعدالله ونوس في مسرحيته “الفيل يا ملك الزمان”، التي كتبها عام 1969، متأثرا بمسرح بريخت، فكرة الثورة من خلال تنوير المتلقي وتحفيزه على رفض طغيان السلطة. وفي عام 1968 قدّم المسرحيان اللبنانيان روجيه عساف ونضال الأشقر مسرحية “مجدلون” في بيروت، وهي مسرحية سياسية كتب نصّها الكاتب والروائي اللبناني هنري حاماتي، تناولت قضية الثورة العربية والنضال الفلسطيني متمثلا بصعود المقاومة الفلسطينية، وقد أزعجت المسرحية السلطة المتخاذلة آنذاك وأوقفت عرضها، فخرج الممثلون في تظاهرة حطّت أمام مقهى “هورس شو” في شارع الحمراء، وكان معروفا بوصفه مقهى للمثقفين، وعرضوا المسرحية في الشارع. أما في الألفية الثالثة فقد ظهرت خلال ثورات الربيع العربي، وبعد اندلاعها، العديد من التجارب المسرحية لكتاب ومخرجين شبّان في أكثر من بلد عربي، منها: “زنقة زنقة” بجزأين للبناني قاسم إسطنبولي، “وسع طريق” للمصريين علي الغريب مؤلفا وخليل تمام مخرجا، “وجه لوجه” للجزائريين مرزاق مفلاح وسمير مفتاح، و“الثورة غدا تؤجّل إلى البارحة” للسوريين التوأم أحمد ومحمد ملص. ونشط عدد من المسرحيين السوريين في تقديم عروض مسرحية عن الثورة خارج سوريا منها، مثلا، عرض “عندما تبكي فرح” (2016) تأليف مضر الحجي، وإخراج الألمانيين ستيلا كريستو فيليني وشتيفان شروخر، وهو يتناول قصة الشابة “فرح” التي أعلنت ثورتها الذاتية، خلال الثورة السورية، وبدأت بالمشاركة في المظاهرات السلمية. ونظرا لسعة التجربة المسرحية في مصر، فإن تيارا جديدا من المسرحيين الشبّان ولد بتأثير ثورة 25 يناير 2011، صنع ما يمكن وصفه ب“الحقبة المسرحية الجديدة”؛ فهو يمثّل، حسب رأي بعض النقاد، فصيلا من فصائل شباب المجتمع المصري الذي أسقط النظام في سعي إلى تغيير الأوضاع الفاسدة. ولم تغب الثورة وتداعياتها عن المسرح التونسي بعد ثورة الياسمين (14 يناير 2011)، فجاءت تجارب مسرحية عديدة للفاضل الجعايبي وزوجته جليلة بكار، وتوفيق الجبالي، والراحل عزالدين قنون، والشاذلي العرفاوي، وجعفر القاسمي، ومعز مرابط، ودليلة مفتاحي وغيرهم حاملة أسئلة عميقة ومقاربات جريئة لقضايا سياسية واجتماعية عاشتها تونس بعد الثورة، كالإرهاب، ومخاوف الناس من التخلّي عن مسار الحداثة. وقد حافظت هذه التجارب على الثراء الجمالي الذي تفرّد به المسرح التونسي منذ عقود طويلة، مثل “تسونامي”، و“عُنف” و“خوف”، و“يحيى يعيش” للفاضل الجعايبي وجليلة بكار، و“صفر فاصل” لتوفيق الجبالي، و“غيلان” عزالدين قنون وغيرها. ولا شك في أن هذه النماذج المسرحية الثورية، التي ذكرناها، لا تشكل إلاّ غيضا من فيض، تناغمت القديمة منها مع المدّ الثوري الذي شهدته أكثر من بقعة عربية، وجاءت الحديثة لتطرح الأسئلة، وتكشف عن مآلات ثورات الربيع العربي في موجته الأولى، والفجائع التي رافقت بعضها، كما هي الحال مع “التراجيديا السورية”، ولا بد أن تنتج الموجة الثانية، المتمثلة بالانتفاضتين في العراق ولبنان ضد النظام الطائفي الفاسد الذي يحكمهما، أعمالا مسرحية تستغور أسباب الانفجار الشعبي.