هل يمكن أن نجري محاولة لمقارنة بين الكتابة الأدبية للقصة والكتابة الصحافية للمقال، باعتماد ثلاثة معايير حسب نظام البنية السردية على مستوى الأسلوب ودرجة من الجاهزية، لا تقبل البرهنة ولا التفنيد بهدف الكشف عن الاختلافات غير القابلة للاختزال، التي تفصل بين هذين الجنسين السرديين؟ إن التنسيق البنيوي لمقال صحافي يتطلب عدة أمور إجبارية: قواعد العنونة واحترام التسلسل الزمني، من خلال الإعلان الأولي للمعلومات الأساسية وإقفال الشكل النهائي… هذه العناصر التركيبية تحد من القدرة على الاستقلالية الإبداعية. على سبيل المثال، يصبح من الصعب إدراج مؤثرات التشويق السردي، على الرغم من ملاحظة أوجه التشابه بين المقال وخصوصية القصة القصيرة. يهتم كل من الجنسين الكتابيين بمرحلة خاتمة النص، لكن بالنسبة للكاتب في مرحلة حيث يمكنه بناء تأثير إنتاجه وبتعبير إدغار آلان بو، يجب على الصحافي إيجاد طرق أخرى بما أنه يكشف عن تأثير مقاله منذ العنوان. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن الكتابة الصحافية ليست نمطية بالتمام، وأن هناك هامشا مريحا من الحرية في التأليف. والشيء نفسه بالنسبة للقصة القصيرة، حيث من شروطها المحددة أن يكون شكلها مختزلا، ويتم تركيز تأثيرها في الفقرة الأخيرة. يتعلق الأمر هنا بمفهوم اختصاري يعتمد على نموذج القصة القصيرة الواقعية، التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وهو النموذج الذي لم يعد ينطبق على الكتابة القصصية المعاصرة الراهنة. هناك أيضا خط تعريفي آخر، قد يكمن في وجود أو غياب سارد معبر عن نفسه، لكن القصة القصيرة لا تعتمد دائمًا على شرط الذاتية، التي تعبر عن نفسها في بلاغتها تمامًا مثلما يمكن لمقال صحافي أن يأخذ منعطفًا لا علاقة له بحقيقة الأحداث التي تم نشرها. من الافتتاحيات إلى النقد الأدبي مرورا بالتقارير الرياضية غالبًا ما يكون للأنا المتكلم حق في الحضور في وسائل الإعلام. إذا لم يوفر المسار البنيوي مؤشرات حاسمة لتبرير الاختلاف فقد تكون المقاربة الأسلوبية أكثر ملاءمة. ولتبسيط هذا الأمر عندما يعمد الكاتب إلى تجاهل، بل تبخيس الإكراهات الخارجية ذات الطبيعة التجارية، أو المتعلقة بالاحتياجات والقدرات المفترضة لجمهور كثيف، يكون الصحافي جزءًا من بنية اقتصادية، تتأسس على المردودية. يجب عليه أولاً أن يفكر في الجمهور الذي يخاطبه، قبل تلبية اختياراته الشخصية الأسلوبية ضمن المنطق التواصلي: «هناك بالفعل «كتابة صحافية». القصة أصلية تقريبا في كل الأحوال. طريقة للكتابة تعتمد على الآخرين وتستوحي منهم ولا تتردد في بعض الأحيان في تشويههم، ولكنها تصبح أسلوبًا بحد ذاتها. البعض يسميها» الكتابة الإعلامية والبعض الآخر يسميها «الكتابة الصحافية» ونحن نفضل هنا أن نسميها «الكتابة التواصلية» (13). وهذا لا يمنع من تواجد وضع سردي، حيث أن البنية السردية والمظهر الأسلوبي يمكن أن يساعد أكثر على فهم المعلومات، ويجعل قراءتها أكثر متعة. بهذا المعنى تتعدد أدوات الممارسة الصحافية ، عندما تطالب بكتابة صورية تلجأ بتلقائية إلى أشكال الأسلوب. يجب أن تبقى الكتابة التواصلية حية على إيقاع الصور والتوضيب المتسارع، على غرار الأفلام الحالية. يجب على الصحيفة أن «تقول» الأشياء وفقًا للنموذج السردي الراهن. وفي الوقت الحالي المعروف بتأثير التلفزيون والسينما والأدب، يجب اتباع هذا النوع من السرد، ولكي يتعلق القارئ بالمعلومة، فإنه يشترط أن نقصصها عليه بطريقة حقيقية ومنطقية، وذلك من خلال اللجوء إلى جميع تقنيات السرد (14) «المرجع السابق». ولكن إذا كان الصحافيون لا يجهلون الاستعارة فإن استخدامها يختلف جذريًا عن استخدامها من طرف الكتاب. عندما يلجأ المبدع إلى المجاز الاستعاري، فلأنه يرغب في مفاجأة قارئه بتأثيث نصي جديد، في حين لا يمكن للصحافي اللجوء إلى هذا النظام الباهظ التكلفة، الذي يتطلب من القارئ بذل جهد كبير في الوقت وفي التفكير. إنه يحترس من خلق هذه الهوة التواصلية ويفضل بدل اختراعها استعمالها حسب تعبير Jean Cohen (15) لقد طورنا هذا التحليل في مكان آخر: C. HuyneBn M. وتفقد الاستعارة وظيفتها في الإبداع اللغوي ووضعها المجازي.تصبح هذه الأخيرة أداة اتصال تستغل العمق المشترك من صور الذاكرة الجماعية، التي لا يمنع استخدامها للرفع من القيمة الأسلوبية. تجدر الإشارة إلى أن الصحافيين يستخدمون بكثرة أسلوب الواقعية المؤثرة، خاصة في الأخبار المتنوعة برغبة تروم الوضوح التواصلي بدل الاهتمام بالكتابة. وهكذا، فإن الأسلوبية تمكننا من التمييز بين نوعين من النصوص، أو نوعين من الممارسات الاجتماعية، ولكن حتى من دون أن يكون هذا الاختلاف واضحًا، فلا تزال هناك طرق استرداد قائمة. في المقابل إذا اعتبرنا أن الأدب هو فضاء اللايقين والتذبذب، تماشيا مع المقاربات المتعلقة بالإستتيقا وسيميائية التلقي، فإننا سوف نقبل بأن الكاتب ينشئ نصا يحتوي على سلسلة من فضاءات اللاتحديد، البياضات حسب قول فولفغانغ إيزير، تتيح اختلالا في الدلالات. هذه الميزات هي التي تشكل أفق الانتظار لدى القارئ أمام موضوع سيميولوجي سيعرف أنه ينتمي إلى الأدب. لا أحد ينكر فضل الجوائز الأدبية في تشجيع الإبداع الأدبي، ودعم المؤلفات والترويج لها، والأهم من ذلك تنبيه القراء إلى أعمال قد لا ينتبهون لها. لكن الحصول عليها لا يعني بالضرورة الشهرة والمجد لأصحابها، فقد تصبح الجائزة الأدبية لعنة تلاحق الكاتب، فتقلب حياته رأساً على عقب، وتشوش سيل إلهامه، حتى يصبح مجرد ذكر اسمها بداية شريط من الذكريات المؤلمة. وهنا، نتناول «لعنة» أهم هذه الجوائز الفرنسية وأعرقها (الغونكور) التي تمنح «لأفضل الأعمال الأدبية، من حيث جدة الموضوع، وشجاعة الفكر والشكل». لعنة غونكور أصيب بالكآبة، وتوقف عن الكتابة لمدة 15 سنة، وتمنى لو لم يمنح تلك الجائزة الأدبية العريقة... إنه الكاتب الفرنسي الراحل جان كاريير الذي مر بتجربة مؤلمة لم يتعافَ من أثارها بعد أن حصلت روايته «صقر مايو»، دار نشر «بوفرت»، عام 1972، على جائزة غونكور. لم تمهله الآلة التجارية الكبيرة التي تقف وراء الجائزة الوقت الكافي لاستيعاب الشهرة المفاجئة التي تعرض لها، فبعد حفل التتويج، بدأ ماراثون حفلات توقيع الكتاب التي لا تنتهي - حسب تعبيره - في كل مدن فرنسا، إضافة للمحاضرات واللقاءات التي قلبت حياته الخاصة رأساً على عقب. التعرض الإعلامي الشديد سبب له إرهاقاً جسدياً ونفسياً، تحول إلى حالة كآبة مستديمة، بعد أن انسحبت عنه الأضواء فجأة، وتملكه القلق من عدم قدرته على تقديم عمل جديد بالمستوى نفسه. معاناته هذه بعد الجائزة، وتحوله إلى شخصية هشة مكتئبة، رواها في كتابه «ثمن غونكور»، دار نشر «غاليمار»، حيث كتب: «جائزة غونكور تكبير لحياتنا في أعين الآخرين، وتثقيل لحضور الآخر في حياتنا الخاصة؛ كعكة محشوة بأحجار صغيرة تأكلها فتكسر أسنانك (...) هناك باستمرار هذا القلق الذي ينتابك، والسؤال الذي لا يفارق ذهنك: والآن... ماذا أكتب؟». الهاجس نفسه كان قد عاشه من قبله الكاتب ألفونس دو شاتوبريان، حين فاز عام 1911 بالجائزة نفسها عن روايته «السيد لوردين»، حيث كشف أنه ظل لفترة طويلة ك«المشلول»، لا يستطيع أن يكتب ولا كلمة، لشدة خوفه من تخييب الآمال، وانتظر أكثر من 12 سنة قبل أن يصدر روايته الثانية. أما الكاتبة بولا كوستان التي فازت بالجائزة عام 1998، عن «اعترافات مقابل اعترافات»، دار نشر «غاليمار»، فقد واجهت حملة انتقاد شديدة من طرف وسائل الإعلام دامت لسنوات، على اعتبار أنها لم تكن المرشحة المفضلة للوسط الثقافي، وأنها «سرقت» الجائزة من المرشح المفضل آنذاك: ميشال ويلبيك، وروايته «الجسميات الأساسية». وهي وضعية أشبه بالتي مر بها الكاتب الراحل جي مازولين الذي يبقى عند كثيرين بمثابة الكاتب الذي «سرق» جائزة «الغونكور» من لويس فريديناند سيلين، عام 1932، وروايته المعروفة «رحلة إلى آخر الليل». الناقد الأدبي سيلفان بورمو، من صحيفة «جي دي دي»، كتب آنذاك بلهجة ساخرة: «إذا كانت لجنة (غونكور) قد فكرت في منح الجائزة لعمل أدبي بهذه الرداءة والتفاهة في كل سنة، فإن الاهتمام بها كان سينتهي منذ فترة طويلة». وتذكر فائزة أخرى بالجائزة، هي الروائية الفرنسية بولا كوستان: «في الأول، كنت سعيدة بالاستقبال الحار، والتهاني الخالصة، وقلتي لنفسي يومها يا للّه... كم أنا محبوبة! لكني تفاجأت بعدها بموجة من الهجوم هزت من ثقتي، وجعلتني أسأل نفسي لسنوات طويلة: هل أستحق فعلاً هذه الجائزة؟». الظروف نفسها أحاطت بفوز الروائية باسكال روز، عن روايتها الأولى «صياد الصفر»، دار نشر «ألبان ميشال»، أمام الكاتب إيدواردو ماني، عام 1996، حيث لاقت على أعقابها هجوماً شديداً، لأنها لم تكن «الفائز المنتظر». وتروي الكاتبة على صفحات «لو فيغارو»: «في الليلة نفسها التي فزت فيها بالجائزة، كل شيء انقلب عليّ، بدءاً ببرنامج إذاعي مشهور انتقد روايتي بعنف غير معهود، إلى مقالات الصحافيين المُهاجمة. في الأول، كنت كاتبة واعدة. بعد الجائزة، أصبحت مرُبكة مثيرة للحيرة!». وتذكر باسكال روز أن الهجوم طال روايتها الثانية «الحديد»، دار نشر «ألبان ميشال»، التي صدرت بعد أشهر من الجائزة، والتي حظيت بحملة انتقادات حادة جرحتها بشدة، وهي الوضعية التي استمرت 6 سنوات كاملة، لم تلقَ فيها أعمالها أي ترحيب من النقاد. اليوم، الكاتبة الفرنسية نفسها عضوة في لجنة تحكيم «جائزة ميديسيس»، ويبدو أن «الوسط الأدبي» قد «غفر» لها حصولها على جائزة «غونكور» - كما تقول - إلا أنها لن تنسى تلك السنوات السوداء. باسكال ليني الذي حصل على الجائزة عام 1974، عن «صانعة الدونتيل»، دار نشر غاليمار، تعب من الملاحظات التي تذكره باستمرار بماضيه المرتبط بالجائزة الأدبية، وكأنه لم يكتب غير تلك الرواية، بل إنه لا يفهم الشغف الذي نشأ حولها، لا سيما بعد اقتباسها للسينما، لأنه لا يعتبرها أحسن أعماله، لدرجة أنه ألف كتاباً عام 2000 بعنوان: «يا له من غونكور»، دار نشر فايار، للتعبير عن سخطه. يقول ليني: «كتبت أكثر من 50 رواية، بعضها لاقى نجاحاً تجارياً كبيراً في المكتبات، لكن بعد 40 سنة من حصولي على الجائزة، لا يزال البعض يسألني: ماذا كتبت بعدها؟ الحديث عن الرواية الفائزة يعود كل سنة وكأنه أنشودة أطفال، كتبت رواية ناجحة، لكنها كانت أيضاً الشجرة التي أخفت الغابة!». وفي مقطع آخر، يشّبه ليني حفلة تتويج الكاتب الفائز بمسابقات ملكات الجمال، فيكتب: «وكأنك في مسابقة اختيار ملكة جمال، وأنت بمثابة المرشحة... شيء في غاية الابتذال، لكنك تردد في أعماق نفسك: لا بأس كله يحدث لسبب وجيه، ثم إني سأجني الكثير من الأموال... وهو ما يحدث فعلاً، ولكن هل هو مبرر كاف؟ لست متأكداً». الخوف من فقدان قاعدة قرائه الأوفياء هو ما عاشه الكاتب فريديريك ترستان بعد حصوله على الجائزة الأدبية عام 1985، عن روايته «التائهون»، دار نشر بالان. يقول الكاتب: «فجأة، أصبحت كتبي تُطبع وتباع على نطاق تجاري واسع: 200 إلى 300 ألف نسخة. بطبيعة الحال، القراء الجدد يشترونها كما يشترون أي رواية فائزة يمنحونها للأقارب في أعياد الميلاد، لكنهم سرعان ما ينتقلون لكاتب آخر؛ المشكلة هي أنك قد تفقد القراء الأوفياء الذين يتابعون أعمالك منذ البداية، لأنهم يشعرون بتغيير بعد الجائزة، بأنك دخلت حلقة جديدة لم يتعودوا أن يروك فيها؛ ببساطة لم تعد في نظرهم ذلك الروائي النادر». فريديك ترستان يعترف بأن عدة كتب كانت لازمة لكي يستعيد القراء الذين فقدهم بعد الجائزة، والذين ذهبوا لغاية اتهامه ب«الدعارة الأدبية»، ورضوخه للمنطق التجاري لدور النشر الكبيرة. ويضيف الكاتب الصحافي هوبرت برولونجو، في موضوعه «غونكور قتلتهم»، أن هؤلاء الكتاب، وإن كانوا قد اشتكوا من لعنة «الجوائز الأدبية»، فإنهم لم يرفضوها، باستثناء جوليان غراك، عام 1951، بل إن معظمهم اعترف باستفادته من المردود المادي والإعلاني الذي واكب حصوله على الجائزة. للتذكير، معدل مبيعات رواية فائزة يتراوح ما بين 400 ألف إلى 600 ألف نسخة. على أن المعاناة تأتي بعد مرحلة التتويج عند كتُاب عرفوا محطات صعبة في حياتهم الشخصية والمهنية، وجاءت الجائزة لتزيدها تعقيداً، أو عند أولئك الذين يدفعون ثمناً باهظاً لأنهم فازوا بعيداً عن وصاية مؤسسات النشر الكبيرة، ومناوراتها المعتادة في كواليس الجوائز الأدبية؛ أو ببساطة لأنهم تفاجئوا بالتعرض الإعلامي الشديد. وكما يلخصه الكاتب الفرنسي جان فوتران الذي حاز على «الغونكور» عام 1989: «غونكور وثبة للخوف، انعتاق... والتزام في الوقت نفسه، وهو أن تكون في المستوى».