لا يمكن للإنسان أن يتخلى عن حقه في التعبير، ومع ذلك، فثمة تحول أو تعديل مستمر في وسائط التعبير، لا على مستوى الأجناس، أو الأنواع، أو حتى الصيغ التي بدأت تظهر مؤخراً، إنما على مستوى بروز توجهات جديدة تتصل بمزاج المتلقي أو الجمهور، وهذا يأتي انطلاقاً من جدلية التجاور، أو التنازع في ما بينها، فمعظمها يخضع لمسارات التلقي تبعاً للجمهور، خاصة ثقافته، ونوعه وجنسه وعرقه، وهنا ربما تبدو لنا جميع الصيغ التعبيرية حاضرة وقائمة، غير أن ثمة توقعات بأن الأجيال القادمة ربما تحدث انقلاباً على بعضها، فربما يختفي البعض منها، وربما يعاد إنتاج بعضها الآخر، وربما يظهر أمر جديد. فهناك فئة جديدة من الجمهور شرعت تتجه إلى نماذج من التعبير تبدو، أقل تعقيداً، وأكثر متعة، أو أكثر حقيقية، أو لعلها تبدو أكثر حيوية، ومنها ما نشهده من هذا الاكتساح الكبير لما يعرف بكوميديا الوقوف (ترجمة حرفية لعبارة standup comedy) وهي في ذلك شأنها شأن جميع الظواهر الثقافية الطارئة، سرعان ما تخضع للدرس، أو التحليل، ولا سيما في الغرب الذي يتفوق علينا في القدرة والمسارعة لتوفير قاعدة بيانات معرفية لكل ما يستجد في هذا العالم، وبين ليلة وضحاها تظهر نظرية لدراسة هذا النوع من التعبير، أو ذاك لاكتناه الكثير من خصائصه. العرض وجمهوره يتسم هذا النوع من العروض بحجم الجماهير التي لا نراها في ندوة ثقافية أو أمسية شعرية، ومع ذلك فعلينا عدم التسرع بالحكم على التكوين الثقافي الجديد للمجتمعات، فالشعوب لم تعد تصدق المثقفين وتؤمن بتنظيراتهم، فمعظمهم مرتهن، أو يمارس خداعاً، غير أن بعض الوسائط التعبيرية الجديدة تمكنت من تحقيق استقلالية اتكاء على لعبة الرأسمال الجماهيري، التي يمكن أن يحققها مقدم برامج يتمكن من أن يحدث تأثيراً، ويحقق نسبة حضور عالية، ما يحرره من هيمنة مؤسسة الدولة. هذه العروض ولا سيما الشهيرة منها تقدم على أكبر مسارح العالم، وعلى الرغم من وجود الكثير منها، والتي ربما يتهمها البعض بالسخف، بيد أنه ينبغي ألا نساوي بين هذه العروض من حيث القيمة والأثر. فثمة عروض ناقدة تتبع منهجا واضحا في التعبير عن الكثير من المواقف السياسية أو الاجتماعية بعمق وجدية، كونها تتسم بالتحليل الدقيق حتى أنها تكاد تتفوق على الكثير من التقارير الإخبارية أو التحليلات التي تنهض بها مؤسسات علمية، أو إعلامية مرموقة، ما يعني أننا إزاء نسق تعبيري جماهيري مؤثر، أو شديد التأثير. غير أن السؤال الأكبر ما سر هذه الجماهيرية التي يتمتع بها من يقدمون هذا النوع من البرامج؟ وهل هذا النوع من التعبير ينطوي على قضايا عميقة وحقيقية؟ أم هو نوع من أنواع الترفيه البسيط الساذج؟ لا شك في أن الإجابات تبدو لنا مقلقة، كوننا ننتمي إلى عصر لا يتسم بالفعل اليقيني، وإنما ينهض على المفاجأة والانتشار السريع، في حين يمكن أن تواجه هذه العروض التلاشي السريع، انطلاقاً من ميوعة قيم ما بعد الحداثة، كما هي البرامج الحوارية التي انتشرت في زمن ما، وربما ما زالت تمارس بعض الحضور، غير أنها لم تعد بهذا الوهج، ما يعني أننا في عصر مائع، أو سائل، لا يمكن أن يستقيم على حال، ولا يمكن التعويل عليه، فما أن ندرك ظواهره حتى تختفي. الفعل الحي هذا النوع من التعبير ينهض على وجود شخص يقدم عرضا كوميدياً ساخراً ضمن ما يعرف بالعرض الحي، وأمام الجمهور مباشرة، ما يعني أننا أمام وضع حيوي، يحتاج إلى مواصفات عالية لمن يقوم بهذا العمل، ومن أهم تلك المواصفات تقبل الجمهور لهذا الشخص، ولهذا يجب أن يتميز بشخصيته أو (حضوره)، بالإضافة إلى القدرة على التواصل مع الجمهور، علاوة على القدرة على توظيف الزمن الحاضر في التقديم أو السرد، فاللجوء إلى استعمال الفعل المضارع يأتي من كون العرض يشتبك مع اللحظة الراهنة، أو الحدث الساخن. لا شك في أن جذور هذا الفن تعود إلى الزمن القديم، حيث وجد هذا النوع في اليونان القديمة، غير أنه اتخذت طابعه، وتكوينه القريب الصلة بصورته الراهنة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وفي زمننا هذا تحول هذا الفن إلى ظاهرة جماهيرية ثقافية واضحة. إن القضايا التي تعالجها هذه المواقف تتباين تبعاً للمقدم، والجمهور والسياق الذي يتحضر فيه، غير أنها في المجمل تعكس رغبة شديدة بالسخرية من شيء ما، وهذا ما يعني أن ثمة إطاراً ما للرغبة بنقد ممارسة ربما تكون اجتماعية أو سياسية أو ثقافية. السخرية والنقد ثمة الكثير من العروض التي تتخذ من النكتة، والموقف الساخر زاداً لها، وهنا يكون الإضحاك بهدف الإضحاك وحسب، وغالبا ما يلجأ إلى بعض النكات والمواقف المضحكة التي يرويها المقدم بأسلوبه، وفي بعض الأحيان ربما تحمل شيئاً من النقد اللاذع، والشّديد السخرية، ولكن ثمة في المقابل عروض مدروسة بعناية، وتقوم بتوظيف صيغ من التعبير المساند، كالموسيقى أو الرسومات التعبيرية أو التوضيحية، كما العروض البصرية، في حين تتخذ كل حلقة ثيمة أو موضوعاً معيناً يتصل بالسّياق أو الحدث المؤثر، في حين أنها تمارس نقداً سياسياً للكثير من الظواهر في مجتمع ما ينبغي على الأقل أن يتمه بقدر مقبول من الديمقراطية، لأنها ربما تعمد إلى تقديم حقائق ومعلومات ذات أهمية، غير أنها تأتي في قالب ساخر، وكوميدي، وهي في معظم الأحيان تنتقد قيماً مجتمعية كالعنصرية، والطبقية والفساد، وتحليل سلوك الأقليات، أو سلوك المجتمعات المهيمنة، كما النقد لبعض الشّخصيات الرموز، في حين يفضل الجمهور الاستماع لبعض السّخرية التي تطال مجموعة من المشاهير، أو المؤسسات كشركة أمازون التي تنتهك حقوق المؤلفين والناشرين. حسن منهاج من العروض التي بدت لي حقيقية وواعدة عرض يقدمه شاب أمريكي من أصل هندي مسلم، وهنا تبدو لنا بطاقة التعريف بحسن منهاج أحد أسباب نجاح البرنامج الجماهيري الذي يعرض على أكبر المسارح في العالم، كما يعرض على أكبر شبكات التلفزة الرقمية، ومنها نتفلكس Netflix حيث يتصدر هذا النوع من البرامج نسب المشاهدة. هذا الشاب بحيويته ووسامته… لحيته الخفيفة والمهذبة، وشعره الأسود، وقصته العصرية كما ملابسه الغربية، إذ يبدو للجمهور خفيف الظل كونه كسر النمط المعتاد، ما أسهم بتحقيق جماهيرية. لقد استطاع حسن منهاج أن يكون مؤثراً عبر القضايا التي يناقشها، وهي تبدو لي شديدة الأهمية، حيث يقوم بالتقاطع مع القضايا الثقافية التي تتصل بالعرق والدين والسياسة، وهو ينتقد المؤسسة الأمريكية باختلاف مسمياتها ووظائفها، كون البعض منها يروج للكثير من الأكاذيب والمغالطات. كما ينقد موقف بلده أمريكا بوصفه مهاجراً، أو يلجأ إلى نقد البلد التي هاجر إليها بكل ديمقراطية لكونها تقوم بمساندة بعض الدول غير الديمقراطية، أو لسلوكها غير القيمي في عهد الرئيس ترامب، وهو ينتقد أيضا بعض السلوكيات والطبائع التي تميز المهاجرين على اختلاف منابتهم، وأصولهم، في حين يوجه الكثير من النقد إلى الشخصية الأمريكية، ولا سيما البيضاء اليمينية التي تنتشر في الضواحي والأرياف، ومعظمهم من أكثر المؤيدين لسياسة دونالد ترامب، في حين يطعّم عروضه ببعض المتعلقات بحياته الشخصية، ومعاناته لكونه ينتمي إلى بشرة غامقة في عالم أبيض، كما يعرج على نقد طبقة المهاجرين، ولا سيما الآباء الذين يوجهون أبناءهم نحو التعليم، بوصفه خياراً لأبناء المهاجرين للتمكن من تجاوز صعوبات الحياة في دولة معقدة كالولاياتالمتحدةالأمريكية. إن برنامج حسن منهاج ينطوي على قيمة حقيقية، ولكن بإطار كوميدي ساخر، وهذا ربما يجعله يتفوق على الكثير من المقدمين لهذا النوع من العروض، على الرغم من أن بعضهم يعدّ من أشهر نجوم السينما، ولطالما عرفوا بأدوارهم الكوميدية في السينما الأمريكية ومنهم كيفن هارت، وغيره الكثير. لا شك في أن حسن منهاج ليس مقدم برنامج كوميدي وحسب، إنما هو ناشط سياسي، وناقد بارع، علاوة على أنه يمتلك المؤهل المطلوب على مستوى الشخصية والحضور، كما الثقافة حيث درس العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، في حين قدم العديد من العروض التي نالت استحساناً وشهرة. فقد بدأ مسيرته المهنية سنة 1996، واستضيف في البيت الأبيض في حفل المراسلين السنوي سنة 2017. إن تأثير حسن منهاج يتجاوز الرغبة في إضحاك الجمهور إلى نقد بعض المظاهر السلبية، أو توجيه نقد لاذع لبعض الممارسات، إلى كونه يسعى إلى تطوير النموذج الكوميدي بالاتكاء على منظومة معمّقة من القضايا التي يناقشها بطريقة مختلفة، فهو يحدث تحولاً في المساءات الليلية التي يقدم فيها عروضه، ولا سيما عرضه الذي عرف باسم «دليل الوطنية السريع» الذي يعرض على القناة العالمية الأشهر. ظاهرة تستحق الدراسة إن الأسس التي ينطلق فيها حسن منهاج تبدو لنا شديدة الخصوصية، فثمة قدرة على كسر الحواجز، واجتذاب الجمهور لما يقوله هذا الشاب، ربما لأنه يعرف بما نفكر، ومن ناحية أخرى فإن عروضه موجهة في جزء منها للتكوين الثقافي في الولاياتالمتحدة، بالإضافة إلى أنه يمارس منهجا واضحاً في القدرة على أن ينفتح على الكثير من القضايا العالمية متسلحا بمعرفة شديدة بخلفيات بعض الأحداث، وعلى ما يبدو فإنه يطبق أدوات ومقاربات بحثية معمقة في سبيل تحقيق النتائج المرجوة. لا ريب في أن عرض حسن منهاج على ما يبدو قد أمسى ظاهرة في أدبيات نقد الظواهر الأكثر سخونة في العالم، وهذا ما يجعله يستحق أن يختبر نقدياً من منظور الدراسات الثقافية، ولاسيما أن هذا الوسيط الجديد بدا أكثر حقيقية وعمقا من الكثير من الوسائط الأخرى، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا لكون منهاج يتمتع بجرأة وإيمان عميقين بما يقول، ولعل أصوله والنمط الذي ينتهجه جعله مقبولا جداً من قبل الجماهير التي تحتشد لمتابعة عروضه في جميع أنحاء العالم. _________________________ كاتب فلسطيني أردني