بعد كمٍّ من الروايات الخرافية التي تشكّل تحيّة للخيال الشرقي، قرّر الكاتب الهندي - البريطاني سلمان رشدي النزول ببساطه السحري إلى أرض الواقع في روايته الأحدث «دارة غولدن»، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، ويخطّ فيها الكاتب بورتريه قارصاً لعالمنا الراهن عبر سرده قصة عائلة هندية ثريّة تختبر الجحيم بعد النعيم. تنطلق أحداث الرواية في 20 كانون الأول (يناير) 2009، أي في اليوم الذي تولّى باراك أوباما منصب رئيس الولاياتالمتحدة، حين يغادر ملياردير سبعيني وأبناؤه الثلاثة مدينة مومباي الهندية ويستقرون في فيلا فخمة بنيويورك، وفوراً، يختار هذا الثري اسماً جديداً له، نيرون غولدن، لمنح نفسه صورة قيصر روماني، ولا عجب في ذلك، بما أنه يملك نفوذاً في مختلف ميادين المال والأعمال. أما سبب رحيله المفاجئ من وطنه فيعود إلى رغبته في طيّ صفحة مأساة كان مسؤولاً عن وقوعها، فإثر مشاجرة عائلية، تغادره زوجته للإقامة في فندق «تاج محل» وتُقتَل مع كثيرين غيرها على أيدي إرهابيين باكستانيين يهاجمون الفندق في 23 تشرين الأول (نوفمبر) 2008. تدرّجاً، وضمن قفزٍ ثابت، من واحد إلى الآخر، نتعرّف إلى أبناء نيرون الثلاثة الذين يغيّرون أيضًا أسماءهم وأقل ما يمكن أن نقول عنهم هو أنهم عصابيون: الابن البكر، بترونيوس، غندور يعاني من مرضَي التوحّد ورهاب الخلاء، لكنّ موهبته في علوم المعلوماتية تجعله يجمع ثروة من ابتكاره ألعاب فيديو، الابن الأوسط، لوسيوس أبوليوس، رسّام متصوِّف يلمع نجمه بسرعة داخل محيط ال «بوب آرت» الفني في نيويورك، أما الابن الصغير، ديونيزوس، المولود من مغامرة عاطفية عابرة لوالده مع مومس، فيملك «وجه ملاكٍ غاضب» ويشبه إلى حدٍّ ما شخصية دوريان غراي في مراوحته بين الجنسين، بالتالي نكتشف معه ألم الالتباس في الهوية الجنسية. تبقى شخصية أخرى ومركزية في الرواية، الشاب رونيه الذي يفقد والديه في حادث سير مرعب في الفترة التي تستقرّ فيها عائلة غولدن قرب منزله، ويؤدّي أدواراً عدة داخل الرواية: دور الرواي أولاً، دور العاشق في علاقته المؤثِّرة مع حبيبته، ودور المخرج السينمائي الذي يبحث عبثاً عن مصدر إلهام له، وهو ما يقوده إلى التلصّص على عائلة غولدن بهدف التقرّب من أفرادها لعثوره فيهم على ضالّته وإنجاز ذلك الفيلم الذي يأمل بأن يجلب له التكريس في ميدانه، وضعية تستحضر فيلم ألفرد هيتشكوك «نافذة على فناءٍ خلفي» الذي يمضي بطله وقته في التلصص بمنظارٍ على جيرانه في المبنى المقابل لشقّته. «أنا آلة تصوير بعدسة مفتوحة»، يقول رونيه الذي يتمكّن في النهاية من اختراق هذه العائلة الغامضة والمغلَقة على ذاتها، لكن الصداقة التي ستجمعه تدرّجاً بجميع أفرادها لا تلبث أن تأخذ طابع «توقيع عقدٍ مع الشيطان»، خصوصاً حين تجبره عشيقة نيرون الجديدة، الشابة الروسية الفاتنة فاسيليا، على تأدية خدمة سرّية لها نترك للقارئ مهمة اكتشافها. ومن طريقة عرضنا لها، قد تبدو الرواية بسيطة في حبكتها، لكن هذا لأنه يتعذّر الخوض في ماضي عائلة غولدن من دون إفساد متعة قراءتها. ماضٍ لا علاقة له بمقتل الأم، ويظن نيرون أنه أفلت منه باستقراره مع أبنائه في نيويورك، لكنه سيلحق بهم إلى عقر دارهم. وحين يحصل ذلك، مثل أبطال مأساة إغريقية، سيصعقهم القدر، الواحد تلو الآخر، فيختبرون الخيانة والزنى والكذب والانتحار والاغتيال، قبل أن تلتهم النيران منزلهم وتنهار إمبراطوريتهم. بالتالي، لا سهولة في قراءة هذه الرواية، بل علينا بذل جهدٍ ثابت لفكّ خيوط حبكتها من أجل فهم ما يدور تحت أنظار راويها. فلأن رونيه يراقب أفراد عائلة غولدن ويصف أفعالهم كشاهد خارجي عليها، لا يمكنه سوى افتراض ما يفكّرون فيه أو ما يحدث فعلاً أمامه، ما يجعلنا خاضعين لافتراضاته التي غالباً ما يعيد النظر فيها أو يدحضها، وضائعين بين سرديتيه المتناوبتين، سردية آل غولدن الحقيقية وسيناريو الفيلم الذي يكتبه، وما يعزّز هذا الضياع هو لجوء الكاتب إلى أنواع أدبية عدة داخل نصه. وفعلاً، نتلقّى هذا النصّ في البداية مثل حكاية: عائلة يلفّها الغموض تأتي للاستقرار في مدينة، ثم يتحوّل تدرّجاً إلى رواية شديدة الواقعية بتعاقُب الوصف الدقيق فيها وتراكُم التفاصيل الغزيرة التي تجبرنا على إسقاط مخيّلتنا داخل عالمنا الراهن، قبل أن يقرر رشدي إخراجنا من النوع الروائي عبر متابعة سرد قصّته على شكل سيناريو فيلم، مستعيناً بلغةٍ صورية تلتقط المشاهد والأحداث من زوايا مختلفة، مثل كاميرا خفيّة لا نراها لكننا نستشعر حركتها. باختصار، رواية صعبة لكن فاتنة بصرحها المعقّد الذي يسمح لصاحبها بالإمساك بتعقيدات عالمنا وتطوّراته وأخطاره، وبالتوقف عند مواضيع كثيرة راهنة، كالإرهاب وبؤس الوضع السياسي الدولي العام وقضية الملتبسين جنسياً الذين نتعرّف إلى مأساتهم وحالاتهم المختلفة من طريق البوح المؤثِّر للشاب ديونيزوس وشخصيات أخرى في الرواية. قضية تمنح رشدي الفرصة لصوغ تأملات عميقة في هذا الموضوع وموضوع الهوية عموماً التي يعتبرها كثيرون اليوم أحادية البُعد، واضحة المعالِم، في أنها عكس ذلك تماماً: «الحقيقة هي أن هويّاتنا منيعة، يتعذّر علينا ولوجها، ولعل هذا أمرٌ جيد، أن يبقى الفرد سديماً متناقضاً تستحيل مصالحة عناصره. داخل كلّ منا، يتعايش الجانب الملتبس مع الجانب الذي لا لبس فيه، وتكمن أسرارٌ لا تُفسَّر». وليس مصادفةً اختيار الكاتب أصولاً هندية لعائلة غولدن، وأميركا، حيث يعيش منذ سنوات، وطناً بديلاً لها، فبذلك يتمكّن من تحقيق هدفين: فضح الفساد والعنف المستشريين في وطنه الأم، الذي يشكّل هاجساً ثابتاً لديه، وتصوير غوص الولاياتالمتحدة في الجلافة ونسيانها قيَمها وفقدانها احترامها مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم. أما ثراء عائلة غولدن فيسمح له بكشف سلطة المال في حقبتنا وخبثها، وبالقول في هذا السياق: «إن كنتَ تدين للبنك بدولارٍ واحد فأنت حقير ويتم التعامل معك كمديون، وإن كنت تدين بمليار دولار للبنك، فأنت ثري وجميع المصارف ملكك»، أما في موضوع التطرّف الديني الحاضر أبداً في جميع أعماله، فنكتفي باقتباس يقول فيه: «من الممكن تماماً أن يعيش المرء حياةً جيدة وأن يملك حسّاً عالياً للتمييز بين الخير والشرّ من دون الحاجة إلى أولئك الدعاة المتعطشين إلى الدم». وإذ يتعذّر هنا التوقف عند سائر مصادر ثراء هذه الرواية، نشير أخيراً إلى أن رشدي يغذّي أيضاً سرديّتها بأساطير إغريقية ورومانية لا تحصى، ويعزّز خطابها بمراجع أدبية وأخرى سينمائية تشكّل، إن جمعناها، أنطولوجيا لأفضل ما أُنتِج من أعمال في ميدان الفن السابع، مراجع يتلقّفها القارئ ويتعلّم منها الكثير وهو يشاهد، مثل متلصِّص، منزل عائلة غولدن (استعارة لحضارتنا؟) يحترق بنيران عفريتٍ أفلت من إحدى لوحات جيروم بوش.