الفيلم الأخير للمخرج الكندي الأرمني الأصل أتوم أجويان بعنوان "كلويه". فيلم ناعم ومشوق يستدرج المشاهد لفخ التلصص منذ أول لقطة في الفيلم ويتركه علي عطش في النهاية. اللقطات الأولي للبطلة تجلس شبه عارية أمام مرآة، نراها من الظهر تضع ملابسها أمام مرآة قديمة تبين بالكاد ملامح الوجه ويبدو من طبيعة الملابس والديكور أن الأحداث ربما تدور في القرن التاسع عشر لكن صوت كلويه البطلة مركب مع انعكاس صورتها الصامتة في المرآة يشير لغير ذلك مما يزيد من إثارة المتفرج. نعومة تلك اللقطات الأولي وانحيازها للغموض الذي يحيط بمشهد امرأة ترتدي ملابسها بهدوء وبطء جالسة أمام مرآة قديمة يعطي للفيلم منذ بدايته وللشخصية الرئيسية منذ ظهورها علي الشاشة طابع التخفي والتنكر والتشويق. كأن السطح الذي نراه، سطح الصورة وانعكاساتها من وجهة نظر كاميرا متلصصة، قد انشطر وأصبح متعددا، مثيرا للفضول، مفتوحا علي الاحتمال. لكن الفيلم لا يتركنا طويلا للعبة التخمين والحدس فهو يصف لنا بصوت كلويه ثم بهيئتها المكتملة عند خروجها من البيت أنها تصاحب الرجال، الأثرياء منهم فقط، تعمل بأناقة وتعرف بخبرة امرأة محنكة احتياجاتهم البسيطة والمعقدة وتلبيها لهم. تعمل في فندق أنيق، نطل علي مدخله من وجهة نظر امرأة أخري هي النقيض التام لكلويه، نعرف أن اسمها كاترين، وهي طبيبة نساء تقع عيادتها في الجهة المقابلة للفندق. المريضة التي تتحدث معها كاترين هي أيضا نقيض كلويه، تشكو من برود جنسي والطبيبة تؤكد لها أن المسألة ليست غريبة وليست ضربا من السحر، هي مجرد انقباضات متكررة في العضلات وستعطيها العلاج اللازم لها. كيف تلتقي كلويه وكاترين وكيف تتطور أحداث الفيلم وما الموضوع؟ عند تلك النقطة، أعرف بما أني شاهدت أفلاما أخري للمخرج أتوم أجويان (وهو بالمناسبة مولود في القاهرة عام 1960)، أن الموضوع سيدور حول إيروس إله الحب عند الإغريق، والذي أعطي اسمه لكلمة إيروسية التي هي حب وشبق جسدي معا. كان أفلاطون يميز بين نوعين من الإيروسية، الأرضية (الإنسانية) والسماوية (الإلهية). النوع الأول يسقط بالإنسان في فخ التحرر الجنسي، والنوع الثاني يعلو به إلي عالم الأفكار والمثل. كان أفلاطون يعتبر الإيروسية شكلا مركبا من أشكال الرغبة، لا يمكن أن تكون تلقائية وبلا دافع، بل هي تطلع لما وراء المادة والجسد، لشبه مستحيل من اللذة يؤكده الحرمان المستمر والسعي المستمر للحصول عليها. أتوم أجويان في أفلامه السابقة يحاول فهم الإيروسية بشكل سينمائي، وينجح في بعض الأحيان في التعبير عنها لدي النساء تحديدا في أفلام مثل "إجزوتيكا" (1994) و"الحقيقة العارية" (2005). في فيلمه الأخير "كلويه" يستعين بكاتبة سيناريو استطاعت أن تخرج هذه المشاعر للنور وأن تعبر عنها بحوار بسيط ودقيق قدر الإمكان. الحكاية أن الطبيبة كاترين تشك في أن زوجها الذي يعمل أستاذا للموسيقي يخونها، فتطلب من كلويه التي تتعرف عليها ذات ليلة في حمام الفندق أن تصادق زوجها وتحكي لها عما يعجبه في النساء وعما يفعله معها. يتشكل المثلث الشهير، زوج وزوجة وعشيقة، برغبة الزوجة وبرضاها، لكنه هنا يشكل خطرا علي الزوجة بشكل جديد فهي تتصور أنها قادرة علي السيطرة علي حياتها وعملها وزوجها وابنها الشاب وعيادتها فإذا بها بهذا القرار الطائش تضع كل هذا في دائرة الخطر وتنزلق هي نفسها في نفس الدائرة ببطء. الفيلم يذكر مع الفارق بفيلم بازوليني الشهير "تيوريما" (1968) حيث يدخل شاب غامض وجذاب حياة أسرة بورجوازية مستقرة ويمارس الحب مع كل فرد من أفرادها فيغير بشكل جذري حياة الأم والابن والابنة والأب والخادمة وطبيعة العلاقات بينهم. بازوليني يقدم فيلما هو خلاصة الشعر والتصوف الأفلاطوني ويعلو بعلاقة الجسد لمرتبة الفكرة والمثال حتي لو شاء أن تكون الفضيحة والفضح وسيلته. كلويه تلتقي بزوج كاترين مرة واحدة، تلتقي بكاترين مرات، تحكي لها في كل مرة عن لقائها بالزوج، في متحف للنباتات أو في غرفة في فندق، وتثير بحكاياتها غيرة كاترين. الأهم من ذلك أن كاترين تمارس دون أن تدري لعبة التلصص علي مشاعر زوجها ويذكرها حديث كلويه بحبها لزوجها وشوقها إلي لمساته وقبلاته لذلك سرعان ما تختفي مشاعر الغيرة لتحل محلها مشاعر ملتبسة تجاه كلويه نفسها، باعتبارها الوسيط بين الجسدين. حكايات كلويه الإيروسية تنشط خيال وعاطفة كاترين ونراها في لحظة تفقد سيطرتها علي كل شيء وتستسلم لأحضان كلويه بعذوبة، فبينهما رباط قوي يتم نسجه ببطء وبإحكام، بينهما هناك الرغبة وهناك الزوج. كل هذا متوقع. ولأنه مبني بشكل محكم سينمائيا، لا شيء يثير تحفظ المتفرج حتي هذه اللحظة، ذروة الحب بين كلويه وكاترين. والفرق بين فيلم جيد وفيلم عبقري، بين "كلويه" و"تيوريما" مثلا أو بين "تسعة" لروب مارشال و"ثمانية ونصف" لفلليني، هو فرق الوضوح البين والغموض المعذب. أتوم أجويان لم يترك المثلث الشهير يتطور في اتجاه الغموض، التباس المشاعر وعنفوان الرغبة، لذة وعذاب الحب والشوق والمفاجأة، بل قرر أن يشرح للمتفرج ما يحدث. نعرف مثلا أن كلويه لم تلتق بالزوج سوي مرة واحدة عابرة في مقهي، وأنها بحكاياتها الملفقة كانت ترغب في حقيقة الأمر في إقامة علاقة مع كاترين، وعندما تواجهها كاترين بالرفض تتسلل إلي بيتها ذات مساء بهدف الانتقام والتقرب منها في نفس الوقت فتمنح نفسها للابن. وينتهي الفيلم بسقوطها صريعة من شرفة كاترين بعد مشادة قصيرة بينهما. باظ الفيلم!!! لو حافظ المخرج علي شعرة الشك لكان فيلمه أكثر قوة من حدوتة الحب المريض التي قدمها لنا. يبقي أن المشاهد الأيروسية في الفيلم جميلة وأن كاست الممثلين قوي، ليام نيسون الزوج، جوليان مور الزوجة واماندا سيفريد كلويه، التي تعني بالمناسبة العشب النضر.