يجسد العرض المسرحي “بجماليون” لفنانين شباب بالقاهرة أسطورة النحات الإغريقي الشهير بمعالجة جديدة لمسرحية الأديب المصري الراحل توفيق الحكيم وقراءة فلسفية للصراع بين الحياة والفن، والبشر والآلهة. وتأتي الفانتازيا المسرحية “بجماليون” لمجموعة من الشباب المغامرين، الذين يراهنون على مواهبهم وقدراتهم الخاصة لإحياء الأسطورة الإغريقية وإعادة صياغة مسرحية توفيق الحكيم، رغم الإنتاج الفقير وإمكانات التصنيع المسرحي المتواضعة. يلجأ العرض المسرحي لفرقة “فري ستايل” إلى تقنية تلائم ملابسات إنتاجه وظروف خروجه إلى النور، هي ما يمكن تسميته بالدوران حول “النَّص”، فالعرض الذي يشهده مسرح تياترو آفاق بالقاهرة على فترات غير منتظمة تحت رعاية جائزة الدعم المسرحي يبدو غير هادف إلى الربح (التذكرة بقرابة دولار واحد)، أي أنه تثقيفي أو خالص لوجه المسرح. وأدرك صنّاع العرض، وعلى رأسهم المخرج وصاحب المعالجة الدرامية محمد شعبان، أن الرهان الأول سيكون على الورق، فهو العنصر الوحيد الذي يمكن من خلاله بلوغ شأو بعيد في الإجادة، بالإضافة إلى القدرات التمثيلية والتعبيرية والاجتهادات والفنيات الخاصة بالممثلين وفريق العمل. أما بقية مستلزمات الصناعة المسرحية الاحترافية في عصر التقنيات والإبهار، من إنتاج لائق وسينوغرافيا غنية ومسرح مجهّز ووسائل إضاءة وصوت متطورة، وغيرها، فهي تكاد تكون غائبة عن العمل الذي قُدّر له أن يكون ترجمة لجهود صُنّاعه الذاتية، ومواهبهم الفطرية. ثراء درامي اجتهد فريق “فري ستايل” بشكل كبير ليقدم عرضًا فانتازيًّا مقبولًا يتشبث بقيمة مسرحية “بجماليون” لتوفيق الحكيم، ويستحضر عراقة التاريخ الإغريقي، في ظل الإمكانات المتاحة، وتلخصت المسرحية في جماليات الفكرة، وتفاصيل تفعيلها من جديد على نحو عصري، وبشكل فلسفي عميق، لقراءة ذلك الصراع الذي لا تخبو ناره أبدًا بين الحياة والفن، وبين النفس الإنسانية الأمّارة بالسوء وتعاليم الآلهة. علاقة الإغريقي “بجماليون” (ملك صور في الفترة من 820 إلى 774 قبل الميلاد) بالأدب والفن هي علاقة استثنائية، إذ جرى تناول أسطورته بصيغ ومعالجات كثيرة في المسرح والسينما، وتلك الأسطورة قد خلقها “أوفيد” في البدء في ملحمته، بتصويره “بجماليون” الإنسان والفنان الذي عشق التمثال الذي نحته، حد الجنون والموت. المسرحية تلخصت في جماليات الفكرة، وتفعيلها على نحو عصري، وبشكل فلسفي عميق، لقراءة الصراع بين الحياة والفن تنطوي قصة “بجماليون” على ثراء درامي وصراعات إنسانية خصبة وقضايا فلسفية عميقة، فالنحّات الذي يزهد في النساء، يراهن على صياغة تمثال امرأة يفوق جمالها “الفني” جمال المرأة الحقيقية في “الحياة”، ثم يفتتن بجماليون بتمثاله ويُقنع الآلهة بضخّ الروح فيه، لتتحرك المرأة على الأرض، ويعشقها الفنان ويتزوجها، لكنه يستكشف نقائصها بعدما صارت إنسانة، فيطلب من الآلهة إعادتها تمثالًا عاجيًّا مرة أخرى، وساعتها يندم بجماليون على خسارته حبيبته، فيحطم التمثال، ويلقى حتفه صريعًا مكلومًا. أغرت أسطورة “بجماليون” الكثيرين من الأدباء والفنانين باستيحائها، منهم برنارد شو في مسرحيته التي راهن بطلها على إمكانية “تحويل” بائعة زهور من الطبقة الدنيا وإعادة “صياغتها” لتكون سيدة مجتمع مثقفة خبيرة بفنون الإيتيكيت، وتوفيق الحكيم في مسرحيته التي حافظ فيها على الأيقونات الإغريقية والحبكة الأصلية كما هي دون ترميز. عُرفت كذلك أسطورة بجماليون باسم “سيدتي الجميلة”، وتناولتها تجارب مسرحية وسينمائية عربية وعالمية، منها مسرحية الكاتبين المصريين سمير خفاجي وبهجت قمر التي لعب بطولتها الفنانة فؤاد المهندس وزوجته الفنانة شويكار في ستينات القرن الماضي، وفيلم “سيدتي الجميلة” الأميركي للمخرج جورج كوكور وكاتب السيناريو جاك وارنر، الذي حصل على الأوسكار لأفضل فيلم في عام 1965، وغيرهما.