في «بنات حواء الثلاث» ترسم الروائية التركية أليف شافاق صورة عن الصراع التقليدي بين الحضارات كما فعلت من قبل في روايتها المدهشة «شرف»، ولكن إذا تابعت في العمل السابق حكاية اختين هربت إحداهما من تركيا إلى لندن، وعاشت حياة مزدوجة، فهي في روايتها الجديدة ترسم بورتريه للآنسة بيري الشابة التي تسافر إلى أكسفورد لاستكمال تعليمها، وتعيش هناك مثل أي بنت في بيت من زجاج. وفي هذا الجو تقابل شيرين الإيرانية ومنى المصرية، وتنشأ بين البنات الثلاث علاقة تكامل وإلغاء. وتصل في النهاية للنتيجة التالية: «بمقدار ما أنت تكسب من الآخرين تفقد من نفسك. غير أن هذا الربح والخسارة هو بالمحصلة معرفة إضافية بالذات والعالم». من الواضح أن الرواية تندرج في عداد أدب الرحلات العلمية، وتركز على الجامعة وخدماتها من مساكن ومكتبات وترفيه. بمعنى أنها رواية صالونات ولا علاقة لها بالشارع ولا أفراد المجتمع العاديين، ولذلك غلب عليها أسلوب التدوين لا السرد، وخيم على الحبكة الحوار والمسافات القريبة بين الأشخاص. وإذا كان موضوع الروايات الحضارية معروفا منذ بواكير القرن العشرين، ومهد له كل من محمد حسين هيكل في «زينب» 1914 ثم شكيب الجابري في «قوس قزح» 1946 وسهيل إدريس في «الحي اللاتيني» 1953، فقد اهتمت «بنات حواء الثلاث» بالجو السياحي والتربوي فقط، وبشرت بصدمة الحداثة، كما رأيناها عند الشيخ الطهطاوي في «تخليص الإبريز». إنها متابعة بطيئة ومباشرة، ويتخللها القليل من السرد والكثير من الكلام والتعليق حول مواضيع الساعة، كما فعل الشيخ الطهطاوي في عام 1832. ويعزز وجهة نظري بناء ومحاور الرواية. فهي أولا ليست رواية مذكر ومؤنث، وتتناول العلاقة الشائكة والمعقدة بين نساء شرقيات على أرض غربية. وتخلو تماما من توابل الغزل المشكوف، ولا تستطيع أن تجد أحداثا تدور في غرف النوم وعلى الأسرة. كما أنها محرومة من كل الصور الخاصة بأعضاء الإكثار والخصوبة كالنهد والفرج والخصر. ولا تهتم بالعلاقة المعكوسة بين الرغبات والنشاط الاجتماعي، أو بلغة أوضح لا تلجأ لتصعيد الغرائز باستعمال الشعور. وثانيا، إنها لم تضطر لتقديم عظات طويلة ومونولوجات مسهبة عن معنى الحشمة وضرورة الشرف واختلاف دور الحرية مع اختلاف البيئة. ولكنها ألقت درسا مطولا عن انتهاء عصر البكارة والدخول في عصر الفضيلة، بالطريقة المعروفة التي حمل لواءها جيل التنوير الثاني، أمثال نوال السعداوي وغادة السمان وليلى البعلبكي. وأفردت فصلا كاملا عن المشكلة بعنوان (المستشفى ص266). وخلاله رفعت شافاق صوتها، وأكدت على «أن غشاء البكارة لون من ألوان النفاق، ولا يمكن أن يكون معيارا للولاء أو الحب، ولا حتى الطاعة.. وهو مجرد وهم من أوهام مجتمع خلقه الرجال لأنفسهم». وأرى أن هذا الفصل يحمل كل مساوئ أدب الرحلات العلمية (بما فيها من مباشرة وتلقين وتأمل)، لكنه يعارض النزوع البيوريتاني، الذي لا يرى فرقا بين الجوارح وأعضاء العيب، أو بين القلب والفرج. وسخّرت الرواية بيري لتحمل أعباء العناد الاجتماعي (أو صوت المرأة الغاضبة والمحتجة) وتركتها كل الوقت فريسة لضميرها الذي يحب أن لا يكون مثقلا بالعار. «ومع أنها لم تكن ترى في خرق التقاليد مجلبة للخزي، لكنها ترى أنه يسبب الندم ويكبل العواطف». وربما هذا يفسر لماذا كانت في تركيا موزعة بالتساوي بين أمها المؤمنة وأبيها الملحد، وفي أكسفورد مقسومة نصفين بين تزمت منى وتحرر شيرين، أو كما قالت حرفيا: «لماذا وقفت في منطقة وسطى بيبن إخلاص البنت لشرفها والسخرية منه». ثالثا تعتمد الرواية في البنية على التناوب، بحيث أن الفصول التي تدور أحداثها في إسطنبول تتداخل مع أحداث أكسفورد. وهنا تصور شافاق موطنها كمحطة مخصصة للانتظار، وكأن الناس يعيشون في المطهر أو الليمبو. فكل شيء في حالة تردد، يغلفه الغموض والإبهام وعدم اليقين. بينما تبدو أكسفورد مدينة حاسمة تعرف طريقها لنفسها. بتعبير آخر إن الرواية في قراءة من القراءات هي قصة مدينتين، وذاكرة أكسفورد القوية لا يدانيها غير ضعف هوية إسطنبول. «فهي مدينة ممزقة وتقف على أعتاب أوروبا، ولا تعرف كيف تلبي نداء ماضيها العثماني». وسرعان ما تتحول هذه النوازع لمقارنة بين الماضي، وتمثله جماليات أسطنبول، والواقع وتمثله ثقافة أكسفورد. رابعا، تهتم شافاق من أكسفورد بالمعالم السياحية، ابتداء من جسر التنهدات وحتى مباني الجامعة ذات الطراز الإدواردي أو القوطي. ولذلك فقدت الرواية الحبكة، وتراكمت المشاهد بدون أحداث، ولعبت بيري دور دليل سياحي يقودنا لمفاتن المدينة، حيث يشرح لنا تفاصيل ماضيها. لقد غامرت أليف شافاق في هذا العمل وكسرت حدود فن الرواية من عدة جوانب. - لقد قدمت لنا عملا ذهنيا، بمعنى أن الأمكنة كانت حاملة للمعنى، والشخصيات مفسرة لها. ولذلك لم يتحول المكان لبطل يحل محل شخصية عاقلة أو لشاهد على الأحداث (كما هو حال «جسر درينا» في رائعة إيفو أندريتش المعروفة)، وكذلك لم يكن لكل شخصية صوتها الخاص الذي يفسح لنا المجال لرؤية الوعي الباطن وعالم الأعماق، وما يترسب في الصندوق الأسود من خفايا وأسرار، بتعبير آخر لم يصل العمل لمرتبة رواية أصوات، مثل سفينة جبرا إبراهيم جبرا، أو ميرامار نجيب محفوظ. - كانت الرواية غنية بالرموز الدالة على موقف وربما فكرة. من ذلك الجدار الذي كانت شيرين تقفز من فوقه لتعود لمسكنها، فهو جدار المفهوم القديم لمسألة الشرف، أو أنه حزام العفة التي تدينه بيري جملة وتفصيلا. وباستطراد بسيط لعله هو جدار العصاب الذي يصيبنا برضات متنوعة من جراء المنع والكبت. وقد حرم هذا الأسلوب الرواية من عمقها الاجتماعي، واقترب بها من ألعاب اللغة والتصوير، كما هو الحال في معظم الأعمال الرمزية المشهورة، التي تطابق بين الدال والصور ومنها «كليلة ودمنة» لابن المقفع أو «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل. - ضحت شافاق بالشخصيات وتفاصيل الواقع لمصلحة صوتها الخاص ورؤيتها عن أزمة الإنسان مع ذاكرته ومكانه. فالشخصيات عبارة عن صور في مرايا متقابلة. ومع أنها متعددة فهي تعكس الصورة نفسها أو النموذج نفسه. فالقالب واحد لكن نسخه كثيرة. وتضرب مثلا عن هذه الفكرة بشخصية أستاذ الفلسفة آزور: «فهو نفسه لكن له أكثر من وجه». وربما كانت تريد أن تقول بذلك: «إن العالم هو نفسه، وأن الشرق والغرب مجرد خرافة صنعها الإنسان، والحقيقة الوحيدة في هذا الوجود المتشابه هو أسلوب إدراكنا لها».