إذا كان أشرف مروان زوج منى ابنة جمال عبد الناصر وأحد كبار مستشاري أنور السادات في سنوات حكمه الأولى والرئيس السابق للهيئة العربية للتصنيع، جاسوساً لصالح إسرائيل بالفعل، فكيف تمكنت مصر من مباغتة إسرائيل بعبور خط بارليف؟ ولماذا لا نفترض أنه كان عميلاً مزدوجاً قام السادات بدفعه لتسريب المعلومات لإسرائيل قبل الانقضاض عليها في السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973؟ يتصور البعض أن طرح هذين السؤالين كافٍ لحسم كل ما يثار حول تجسس أشرف مروان لصالح إسرائيل، وهو موضوع يسبب الحديث عنه الكثير من الضيق للملايين من أنصار اليقين المطلق بأن كل من حكم مصر بعد 1952 ليسوا فقط معصومين من الخيانة، بل إنهم معصومون أيضاً من وجود خونة في الدوائر القريبة منهم، فضلاً عن عصمتهم من الفساد والفشل وضعف الكفاءة وسوء الإدارة. لا يصمد السؤالان كثيراً في وجه المعلومات التي يكشفها كتاب «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» للمؤلف الإسرائيلي يوري بار جوزيف، استناداً إلى شهادات أُخذت ونُشرت في حياة عدد من القادة العسكريين الذين شهدوا حرب أكتوبر 1973، أكدوا فيها أن أشرف مروان كان المسؤول عن تمكين الإسرائيليين من منع السوريين من السيطرة على مرتفعات الجولان في حرب أكتوبر، بعد أن أدى تحذيره بخصوص موعد بدء الحرب إلى استدعاء قوات الاحتياط قبل أربع ساعات من المعركة، ولولا ذلك لكانت إسرائيل قد تورطت في معركة طويلة مريعة بعد خسارة الجولان، وكان ذلك سيزيد من فعالية الهجوم المصري على سيناء ثم على جنوب إسرائيل، بشكل كان سيجعل خسارتها فادحة على كل الجبهات. بالإضافة إلى ذلك فقد استفادت إسرائيل من معلومات أشرف مروان في لحظتين حاسمتين، الأولى حين قامت قاذفات مصرية بإطلاق صاروخي جو أرض في اتجاه مقرات قيادة الجيش الإسرائيلي في تل أبيب، لكن إسرائيل كانت مستعدة لتلقي الصاروخين، وقامت بضربهما وإسقاطهما في البحر، لأن خطط الحرب التي نقلها مروان كشفت عن نية إطلاق مثل هذه الصواريخ على تل أبيب، ولولا ذلك لأحدث سقوط أي من الصاروخين في قلب تل أبيب ضربة ذات وقع هائل على الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي، أو على منحى تطور الصراع. يكشف الكتاب أن إسرائيل بعد أن تجاوزت الفوضى العارمة التي تجلت في الأيام الأولى من الحرب على كل مستويات صناعة القرار، استفادت بعد ذلك من المعلومات التي سبق لمروان أن أمدها بها عن خطط الجيش المصري وقدراته، وصارت حظوظ الجيش الإسرائيلي أفضل بكثير في ساحة المعركة، وهو ما جعل رئيس الموساد يأمر بدفع مبلغ قدره مئة ألف دولار لأشرف مروان مكافأة على ذلك التحذير، وهو رقم فلكي بمعايير ذلك الوقت، بالإضافة إلى ما سبق له أن تقاضاه من مكافآت وهدايا، ثم تواصلت بعد اندلاع الحرب بأيام خدمات مروان لإسرائيل حين ساعدها على معرفة نوايا السادات في إدارة العمليات العسكرية، بعد الضربة الموجعة التي تلقاها الجيش المصري الثالث، بل حين أرسله السادات إلى سوريا كان أشرف في الوقت نفسه يلبي طلب الموساد بمعرفة ما الذي يفكر فيه الأسد حقاً بشأن القتال مع إسرائيل، ولقي تقرير مروان ترحيباً واسعاً لأنه كشف أن أفكار الرئيس السوري بخصوص الحرب مع إسرائيل كانت أقل عدائية بكثير مما كان يتوقع الإسرائيليون. في معرض رده على الآراء التي تدعي أن أشرف مروان كان عميلاً مزدوجاً محنكاً، يقول مؤلف الكتاب، إنه كان على مروان في تلك الحالة أن يؤخر تسريبه لموعد الهجوم المصري السوري المشترك إلى وقت متأخر، لتصبح استفادة إسرائيل منه غير ممكنة، لكن ما حدث أن مروان لم يكن يعلم أصلاً بموعد الهجوم الذي أخفاه السادات عن كل المقربين منه، بمن فيهم وزير خارجيته محمد حسن الزيات، وأن مروان استنتج الموعد بالصدفة حين زاره في شقته في لندن صديقه محمد نصير رجل الأعمال الشهير في ما بعد، وقال له إنه سمع من المدير التنفيذي لفرع الخطوط الجوية المصرية في لندن أن هناك أوامر صدرت من وزير الطيران المدني بتغيير مواعيد رحلات الطيران، ولأن ذلك الإجراء كان جزءاً من خطة الحرب التي يعرفها أشرف وقام بتسليمها للإسرائيليين، فقد قام بتحذير إسرائيل في وقت كان كافياً لنشر الجيش النظامي استعداداً للحرب واستدعاء القوات الاحتياطية، بل توجيه ضربة استباقية، وكون إسرائيل لم تقم بتلك الخطوات، فسبب ذلك هو ارتباك قادتها، وعدم رغبة رئيس هيئة أركان الجيش إيلي عيزرا والخاضعين لنفوذه بأخذ تحذيرات مروان على محمل الجد، وكان عيزرا نفسه في ما بعد أكثر المتبنين لنظرية أن مروان كان عميلاً مزدوجاً. شارك مروان في لعبة خداع محكمة لعبها السادات، لكي يبرر عدم اقتناعه بتحذيرات مروان ومعلوماته. يورد الكتاب تفاصيل كاملة للقاءات التي جمعت بين أشرف مروان ورئيس الموساد تسيفي زامير، الذي يصف مروان بأنه «أعظم مصدر حظينا به يوماً»، في حين يقول العميد عاموس جلبوع رئيس شعبة أبحاث الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في الثمانينيات، الذي اطلع بعناية على المواد التي قدمها مروان، أنه لم يظهر في تاريخ إسرائيل كله جاسوس «جعل مصر شفافة بالطريقة التي فعلها مروان»، في حين يصف العميد أهارون ليفران معلومات مروان بأنها «من النوع الذي ترغب فيه وكالات الاستخبارات طوال حياتها، وقد لا ترى مثلها إلا كل عدة أجيال»، وقد تم حفظ هذه المعلومات في أربعة مجلدات ضخمة في أرشيف الموساد، تتضمن جميع التقارير والوثائق التي قدمها، والتي كانت في أغلب الأحيان أصلية وليست مصورة، وهو ما كان يثير استغراب ضباط الموساد، حين يطلعهم أشرف عليها، فيقول ضاحكاً إنه مطمئن أن أحداً لن يفتشه، كما تتضمن توثيقاً لانطباعاته الشخصية التي تفوه بها في جلساته مع ضباط الموساد، والتي ساعدت قرائها من ضباط الموساد على تكوين فكرة جيدة عن الحياة في الدوائر العليا للمجتمع المصري. لعلك لن تستغرب حين تعرف أن الأجهزة الأمنية في مصر قامت مؤخراً بوقف تداول طبعة مصرية كانت قد صدرت من كتاب «الملاك»، الذي كانت قد صدرت ترجمته العربية في بيروت مطلع العام الماضي، صحيح أن ذلك القرار جاء متأخراً بعد انتشار الكتاب على الإنترنت، لكنك لا يمكن أن تفصل القرار عن التعتيم الإعلامي الذي تم فرضه على صدور الترجمة العربية للكتاب، على عكس ما حدث حين صدرت طبعته الإنكليزية، قبل أن تحكم الأجهزة الأمنية قبضتها على الإعلام. وفي الوقت الذي يتم توجيه شراشيح التوك شو ومخبري الصحافة إلى رمي اتهامات الخيانة والعمالة لكل من يعارض نظام السيسي، يستمر فرض الرواية الأمنية التي ترى أن أشرف مروان كان بطلاً، بدون تقديم أي دلائل على بطولته المزعومة، وبدون الرد على الاتهامات الإسرائيلية التي لا تمس شخص مروان، بل تكشف عن اهتراء بنية الدولة المصرية التي يمكن لفرد قريب من رأس الدولة، أن يجعل كافة أسرارها مستباحة في وقت الحرب، فكيف هي حال البلاد إذن في وقت أصبحت إسرائيل هي الحليف الأبرز والشريك الأكثر حرصاً على بقاء نظام السيسي بأي ثمن لن يدفعه غير المصريين؟ ___________ «الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل» يوري بار جوزف ترجمة فادي داود الدار العربية للعلوم. ٭ كاتب مصري".