في الوقت الذي كانت طيور الظلام من الجماعات الأصولية والمتشددين المتأسلمين يُواصلون مساعيهم لمنع ومصادرة فيلم «المهاجر»- المستوحي من قصة سيدنا يوسف وأخوته، والذي رُفع بالفعل من دور العرض السينمائي بعد عدة جلسات ومحاكمات قضائية - راح يوسف شاهين ينحت أدق تفاصيل سيناريو شريطه السينمائي «المصير» مؤكداً في إحدى أغانيه: «ولو في يوم راح تنكسر لازم تقوم، واقف كما... النخل باصص للسماء... ولا انهزام... ولا انكسار، ولا خوف ولا... ولا حلم نابت في الخلا...» وعندما انتهى منه عُرض الفيلم في المسابقة الرسمية بمهرجان «كان» سنة 1997 وفي تلك الدورة نال شاهين أهم جائزة فازت بها مصر، منذ أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عام 1988، وهي جائزة اليوبيل الذهبي للمهرجان عن مجمل أعماله. هذا الأسبوع، وبعد مرور نحو 21 عاماً على العرض العالمي الأول ل «المصير» بالمهرجان الكاني، أُعيد عرض الفيلم مجاناً للجمهور العام على شاطئ الريفيرا- بحضور بطلته ليلى علوي والمنتجين ماريان وغابي خوري- ضمن قسم كلاسيكيات المهرجان العريق في دورته الحادية والسبعين، بنسخة جديدة أُعيد ترميمها بالتعاون بين المركز السينمائي الفرسي وبين شركة أفلام مصر العالمية، وذلك في إطار إحياء ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله وهي المناسبة التي ستمتد إلى نحو ستة أشهر موزعة بين فرنسا، وعدد من محافظات مصر والتي تتضمن إقامة عروض للأفلام- بعضها أيضاً بنسخ جديدة تم ترميميها حديثها- ومناقشاتها مع الأجيال الجديدة، وإصدار بعض الكتب عن يوسف شاهين بعضها يتعلق بموسيقى أفلامه، والبعض الآخر يتضمن ما كُتب عنه سواء بالعربية أو باللغات الأخرى، إلى جانب أفكار أخرى من أبرزها وأهمها عرض نسخة «اليوم السادس» بصوت داليدا مُدبلجاً باللغة الفرنسية فترى كيف يستقبلها الجمهور المصري، خصوصاً أن الفيلم كان قد هاجمه النقاد المصريون- على رغم أهميته الكبيرة فنياً وفكرياً وموسيقياً- بسبب إسناد البطولة للمطربة العالمية الإيطالية من أصول مصرية بعد أن كانت نجمات في قامة سعاد حسني وفاتن حمامة مرشحات للدور، لكنهن عندما طلبن من «جو» إجراء تعديلات على السيناريو ذهبت البطولة إلى داليدا، التي قيل وقتها إنها انتحرت بسبب فشل الفيلم والهجوم عليها. من دون أن ننسى، أنه في ذلك العام تم إعلان عرض فيلم «المصير» في البرنامج الرسمي خارج المسابقة، لكن في المؤتمر الصحفي فوجئ الجميع بإدراج الفيلم ضمن المسابقة الرسمية. لماذا؟ قيل وقتها إن السبب يرجع إلى انسحاب كل من إيران والصين، ففيلم «طعم الكرز» للمخرج الإيراني عباس كياروستامي اعترضت عليه السلطات الإيرانية ومنعت الرقابة هناك خروج نسخة الفيلم من إيران، وذلك بعد الهجوم الذي تعرض له الفيلم بسبب مضمونه حيث رجل يرغب في الانتحار ويحاول البحث عن شخص لمساعدته في هذه المهمة، فاعتذر كياروستامي للمهرجان العريق، كذلك تعرض المخرج الصيني زانج يمو لموقف مشابه مع سلطات بلاده، وكان أحد الحلول هو ضم فيلم «المصير» إلى المسابقة الرسمية عام 1997. وفي ذلك العام حصل شاهين على السعفة الذهبية كجائزة تكريمية عن مجمل أعماله في أعقاب عرض الفيلم، وإن كان البعض ومنهم بطل الفيلم «نور الشريف»- في حوار مع كاتبة هذه السطور- قد صرح أن الفيلم كان مرشحاً بقوة للجائزة لكن انخراط شاهين في الحديث السياسي والرد بقسوة على أحد المشاركين الإسرائيليي، كان السبب في النتيجة النهائية واستبعاد الفيلم من الجوائز، وعلى رغم أن بعض الصحف أشادت بالشريط السينمائي لشاهين ومنهم ناقد «الفيجارو» «كلود باتريه» الذي كتب قائلاً: «الفيلم لا يُرضي الدارسين، لكنه يُشحذ جمهوره للدفاع عن الحرية، وهذا ما أراده «شاهين» بغض النظر عن مدى الدقة في التعامل مع التاريخ». مثلما كتبت ديبورا يونج في ”فارايتي»: «إن الفيلم هو أشجع هجوم على الأصولية في السينما العربية». لكن الناقد السينمائي اللبناني إبراهيم العريس اختلف مع الفنان الراحل نور الشريف، ورسم صورة عامة توضح كيف كان الاستقبال غير العربي للفيلم قائلاً: إن «النقاد الفرنسيين والأجانب قيّموا «المصير» سياسياً وليس فنياً، ومن هنا منذ عرضه الأول كان واضحاً أنه لن يفوز بأية جائزة». أما عن استقبال المصريين للفيلم، فعلى رغم الاحتفاء الكبير بحصول يوسف شاهين بسعفة كان التكريمية عن مجمل أعماله، لكن النقاد والكتاب والمثقفين اختلفوا في استقبالهم للفيلم في ذلك الوقت واعتبره البعض- على رغم قيمته وصدقيته الكبيرة التي تتأكد كلما مرت السنوات- أنه «رسالة دعائية ضد سيطرة الأصوليين على تفكير الناس في مصر، وأن «ابن رشد» كان مجرد رمز وقناع يخوض به المخرج المعركة ضد الأصوليين، لكنه لم يقدم وجوهاً أخرى لابن رشد، ولم نعرف منه، هل كان فيلسوف قرطبة مثقف سلطة تحركه أهداف سياسية؟ وهل كانت كل جهوده بدافع من الحاكم، ولتحقيق استقراره السياسي»؟ وفي تقديرنا أن الرأي السابق به مغالاة، فالتاريخ قابل للتأويل، وقابل للاستلهام والإجتزاء منه، لإسقاطه على الحاضر خصوصاً حينما تشتد الرقابة، ويكفي قدرة شاهين ومهارته الفنية على توظيف حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ وتوظيفها في السيناريو، كاشفاً بواقعية كبيرة محاولات تجنيد الشباب بمعسكرات التطرف والإرهاب، إلى جانب حادثة حرق كتب ابن رشد التي استدعاها «جو» من التراث ليُشير بها إلى حالات المطاردة والمصادرة للفكر والإبداع.