«كيف تجعل الناس يقبلون بلا تذمر ما كانوا يرفضونه بالأمس؟»، سؤال يطرحه أحد النازيين على زميله في مشهد مسرحي كتبه الشاعر والمسرحي الألماني برتولت بريشت، فيشير النازي الآخر إلى قطة تستلقي تحت الشمس قائلاً لزميله: لنفترض أنك تريد أن تطعم هذه القطة ملعقة كبيرة من المسطردة، سواءً كرهت القطة ذلك أم أحبته، ماذا تفعل؟ فيقترح صديقه أخذ ملعقة المسطردة وإدخالها إلى فم القطة قسراً، فيذكِّره صديقه بأن القطة ستبصق المسطردة على الفور بدون أن تبلع نقطة منها، ولن ينوبه من محاولته سوى خربشات لا تعد ولا تحصى، ثم يطلب من صديقه المندفع أن يراقبه جيداً، حين يتناول ملعقة المسطردة ويقوم بسرعة ماهرة بلصقها بمؤخرة القطة البائسة التي ستحاول وهي مأخوذة من شدة الألم، أن تلعق المسطردة كلها لعلها تستريح من الألم، قائلاً لصديقه بلهجة المنتصر: «هل ترى يا عزيزي؟ الآن تلتهم المسطرة وبكامل إرادتها». في مسرحيته الرائعة (99 في المئة) التي ترجمها سمير جريس، والتي تقدم مشاهد كاشفة لبؤس الحياة في ظل النازية، يفتتح بريشت مشهداً مهماً عنوانه (المخبر) بهذه السطور: «ها هم السادة المعلمون، الصبي يشد أذنهم، ويعلمهم أن يقفوا مشدودي الصدر، كل تلميذ مخبر، ليس على التلاميذ أن يعرفوا شيئاً عن الأرض والسماء، بل من يعرف ماذا عن من؟ ثم يأتي الأطفال الأعزاء وينادون على الجلادين والقامعين ويأخذونهم إلى البيت، ثم يشيرون إلى الآباء، ويصرخون: خونة، فيُعتقلون بالقيود والسلاسل». في تقديمه للمسرحية يشير سمير جريس إلى الكلمة التي ألقاها بريشت سنة 1935 في المؤتمر الدولي للكتاب المنعقد في باريس، والتي هاجم فيها زملاءه الذين اعتبروا النازية مرضاً عابراً أصاب الجسد الألماني، وأتباع هتلر حثالة لا تمثل ألمانيا والألمان، لأنه كان يرى الأمر أكثر تعقيداً من ذلك، ويعتبر النازية والفاشية نتيجة مباشرة للنظام الرأسمالي المتوحش الذي يدافع عن مصالحه بالأنياب والأظافر، مستغلاً الطبقة العاملة أبشع استغلال، وهو ما جعل هتلر يتحالف مع رجال أعمال مرموقين، يشير جريس إلى بعض أسمائهم، ثم يستشهد بكلمات بريشت التي يرى فيها أن من يهاجمون الفاشية بدون مهاجمة أسبابها أو محاولة اجتثاث جذورها، أي بدون مهاجمة النظام الرأسمالي الظالم «كمن يريدون نصيبهم من العجل، لكنهم لا يريدون ذبحه، يريدون أكل لحم العجل لكنهم لا يريدون رؤية الدماء، وهم يشعرون بالرضا عندما يغسل الجزار يديه قبل أن يقدم لهم اللحم». في مشهد آخر من مشاهد المسرحية يلتقي مسجونان في فناء أحد السجون، فيعرف كل منهما أن الآخر خباز، يقول المسجون الأحدث لزميل مهنته أنهم قبضوا عليه لأنه لم يقم بخلط النخالة والبطاطس مع عجينة الخبز، لكي يزيد وزنه، ثم يسأل المسجون الذي سبقه إلى السجن قبل سنتين عن سر سجنه، فيقول له: لأنني خلطت النخالة والبطاطس مع عجين الخبز، فقد كانوا يطلقون على ذلك قبل سنتين غشاً في المواد الغذائية. في مشهد يسخر من تعليمات الدولة القمعية المرتبكة، ويحمل عنوان (الفلاح يعلف الخنزيرة)، تدور أحداثه عام 1937 في مزرعة بأيشاخ، يقف الفلاح أمام باب الحظيرة معطياً تعليماته لزوجته وطفليه بأن يغلقوا أفواههم، وإلا دخل أبوهم السجن مدى الحياة، ثم يذكرهم بأنه حين يعطي العلف للماشية الجائعة، لا يرتكب شيئاً ضد القانون، لأن الرب لا يريد أن تجوع المخلوقات، والخنزيرة إذا جاعت صرخت، وهو لن يتحمل سماع صرخاتها، ولذلك سيقدم لها العلف لكي لا تموت، لأن الدولة لن تعوضه عنها لو ماتت، تؤكد زوجته على كلامه وتضيف إليه أن الدولة لم تأخذ رأيهم حين وضعت خطتها التي تقضي بعدم تقديم العلف للماشية في الحظيرة، ثم يطلبان من أولادهما مراقبة الحظيرة من الخارج لتحذيرهما إذا اقترب أحد، ثم يقف الفلاح أمام الخنزيرة قائلاً: خذي كلي يا لينا، هايل هتلر، إذا جاع أحد المخلوقات فليس هناك دولة». في آخر مشاهد المسرحية، الذي يدور في برلين عام 1938 داخل شقة يجلس فيها رجلان وامرأة من العمال، يناقشون الموقف الذي يمكن اتخاذه من الاستفتاء الشعبي الذي تنظمه دولة هتلر، ويحشد له إعلامه، الأصوات المؤيدة المهللة، يعلن العامل الشاب أسفه لعدم استطاعتهم إصدار ولو منشور صغير ضد ذلك الاستفتاء بسبب خطورة الأوضاع، يوافقه العامل المسن الذي يشير إلى الراديو، الذي ينبعث منه الضجيج قائلاً إن عليهم الاعتراف بأن النازيين يزدادون سلطة وقوة، فتشكك المرأة في قوله، ثم تخرج رسالة أرسل بها معتقل قبل لحظات إعدامه، وتقول إنها بفضل ضجيج الراديو النازي ستتمكن من قراءتها بصوت عالٍ بدون أن يسمع أحد الجيران، ثم تبدأ في قراءة الرسالة التي يطلب المحكوم بالإعدام فيها من ابنه أن يهتم بأمر أمه وشقيقاته وأن يكون ذكياً ويرسل تحياته للجميع، ثم يخبره بأنه سيُعدم غالباً في السادسة صباحاً، وأنه يكتب له على أمل أن يفكر الابن مستقبلاً في انحيازاته وانتماءاته، ليشعر الأب أنه لم يلق مصيره عبثاً، وأنه يهمه أن يعرف ابنه أن والده لم يغير مبادئه، ولم يقدم التماساً لأنه لم يرتكب جرماً، ثم يضيف الأب «حتى إن كان يبدو أنني لم أصل إلى شيء، كأنني لم أصل إلى شيء، لم أصل إلى شيء، ليست هذه هي الحقيقة. كل في مكانه، يجب أن يكون هذا هو شعارنا، مهمتنا صعبة جداً، ولكنها أعظم مهمة في الوجود: تحرير البشرية من القامعين. ليس للحياة قيمة قبل أن نصل إلى هذا الهدف، إذا غاب هذا الهدف عن أعيننا، غرقت البشرية كلها في أوحال الهمجية، مازلت صغيراً جداً ولكن لن يضرك إذا فكرت دائماً في الجبهة التي تنتمي إليها». لم يطلب بريشت من شخصيات المشهد الرافضة لما حولها أن تتخذ فعلاً بطولياً كالذي فعله مرسل الرسالة، فأقصى ما فكرت فيه المرأة هو كتابة لا في ورقة الاستفتاء الهزلي، لم يسخر من إحباطهم الشديد بفعل أمواج النفاق والكذب التي تحيط بهم من كل اتجاه، فقد كان بريشت يكتب المسرحية من منفاه، بعد أن فر من بطش النازيين، حيث كتب معتذراً إلى الأجيال القادمة عن إخفاق جيله في مواجهة الزمن الفاشي الأسود «الذي يوشك الحديث عن الأشجار فيه أن يكون جريمة، لأنه يتضمن الصمت عن أهوال لا تحصى»، ولأنه كان يدرك ذلك جيداً، ولأنه لم يتمكن من تحقيق أمنيته في أن «يتجنب الخصام في العالم ويعيش وقته القصير بلا خوف، ويحيا بلا عنف»، ولأنه كان يدرك أن وقته الممنوح له على الأرض قصير، لم يجد ما ينهي به مسرحيته أفضل من تلك الرسالة البليغة التي يوجهها أب لابنه الذي يتمنى الأب له أن يعيش زمناً أفضل، ولا يطلب منه إلا أن يعرف دائماً مكانه الحقيقي في الحياة، ويفكر في الموقع الذي سينتهي إليه، لكي يكون لحياته هدف، ولتضحيات أبيه معنى. … «99 في المئة»: الخوف والبؤس في الرايخ الثالث مسرحية لبرتولت برشت ترجمة سمير جريس