نحن الذين لم نذهب يوماً إلى مهرجان «كان»، واكتفينا بمشاهدة إبداعاته ما إن يتم عرضها في الصالات المحلية، نرفع سقف توقعاتنا عندما نسمع بأمسية أفلام لبنانية قصيرة عُرِض بعضها في افتتاح تظاهرة «أسبوعي المخرجين» خلال المهرجان السينمائي الفرنسي الأكبر في أيار (مايو) المنصرم. بيد أن بعض هذه الأفلام (وهي انتجت ضمن إطار مشروع «مصنع لبنان»)، لا يلبث أن يحبط توقعاتنا إلى حدٍّ كبير، فهي أشبه بالسينما التجريبية التي تعاون فيها مخرجان لبناني وأجنبي على إنجاز الفيلم عينه. وقد جرت أحداث هذه الأفلام في لبنان. تجدر الإشارة إلى أنّه وإلى جانب هذه الأفلام، عُرِضت في أمسية لعرض أفلام لبنانية قصيرة أقيمت في سينما متروبوليس أمبير صوفيل في الأشرفية، بعد انقضاء مهرجان السينما الأوروبية، التي نظّمتها «الجمعية اللبنانية للسينما المستقلة– متروبوليس سينما»، ثلاثة أفلام أخرى وهي «زيارة الرئيس» لسيريل عريس الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مسابقة «المهر القصير» في مهرجان دبي السينمائي الدولي 2017، و «آخر أيام رجل الغد» لمخرجه فادي باقي، و «بالأبيض» إخراج دانية بدير والذي حاز أخيراً على الجائزة الكبرى في مهرجان Curta Cinema في البرازيل. وبالعودة إلى أفلام Lebanon Factory (مصنع لبنان) التي كانت قد عُرِضت في افتتاح تظاهرة «أسبوعي المخرجين» خلال مهرجان كان السينمائي الدولي- كما أسلفنا– فإنها تفتقر بالغالب إلى أساسات الفيلم القصير بمعظمها، حيث أضاعت البوصلة بعض الأحيان وجاء زمام حبكتها متفلتاً لا يخلو من كليشيهات اعتدناها، كوضع البلد المتأزم في فيلم «تشويش» للمخرجين أحمد غصين ولوسي لاشيميا الذي يمتطي السخرية السوداء، ويعالج يوميات حارس ليلي في المدينة التي تُعاني من فوضى عارمة، فيما شخص قد يمثّل أي مواطن عادي يحاول مراراً وتكراراً الانتحار ولا يفلح في ذلك. أما فيلم «أوتيل النعيم»، إخراج شيرين أبو شقرا ومانويل ماريا بيروني، فيتناول تيمة بات تداولها رائجاً في الأفلام اللبنانية وهي قصة الفندق القديم المهدد بالانهيار بسبب بناء جديد يشيّد قربه، وسعي صاحب البناء للحصول على الفندق وهدمه. لا يخلو الفيلم من الوعظ إذ يستخدم رمزية الأخطبوط البحري ليعبّر عن التحايل على الواقع، حيث تأتي النهاية مخالفة لتوقعات صاحب المبنى الذي ظنّ أنّه نجح في شراء الفندق. فيما جاء فيلم «الغران ليبانو»، إخراج منية عقل ونيتو فيلالوبوس، ليحكي قصة عادية جدّاً محورها شقيقان لم يلتقيا منذ ما يزيد على العقد من الزمن، إذ تحضر يمنى لتواري أخيها الثرى ظنّاً منها أنه ميت، فتكتشف أنه ما زال حيّاً وأن من اتّصل بها ليبلغها بموته قد أخطأ، فهو مخمور وليس ميتًا. في الوقت الذي تمضيه في المنطقة الريفية حيث يعيش أخوها مع أسماكه، وبانتظار أن تأتي سيارة تقلّها إلى بيروت، تجد أنهما يتشاركان الكثير من الأمور وهما فعلاً عائلة. وتأتي نهاية هذا الفيلم عبثية كما بدايته، بحيث لا نفقه المرامي التي حاول المخرجان إيصالها إلينا. أما فيلم «سلامات من ألمانيا»، إخراج أونا غوجاك بالتعاون مع رامي قديح، فيبدو الأكثر تماسكاً وتوغّلاً في عمق المشكلة. إذ يعالج العنصرية التي يتعرّض لها اللاجئون السوريون في لبنان والوضع المزري الذي يعيشه بعض اللبنانيين، مما يحدو بشاب في مقتبل العمر إلى انتحال صفة لاجئ سوري كي يقدّم أوراق لجوئه إلى ألمانيا. يمتاز هذا الفيلم بمواكبة حركة الكاميرا للإيقاع السريع للأحداث التي تدور في شارع من شوارع المدينة، فتنجح الكاميرا في إيصال الحركة المستمرة لأبطال الفيلم. ضوضاء وبالنسبة للأفلام الأخرى فقد جاءت أكثر احترافاً من حيث التقنية، وإن لم تفلح في الخروج عن السياق المعهود للأحداث. حيث أظهر فيلم «زيارة الرئيس» للمخرج سيريل عريس الضوضاء التي تصاحب نبأ زيارة الرئيس لبلدة ساحلية صغيرة كي يرى مصنع الصابون فيها، وكيف ينتحل أحدهم صفة مصنِّع الصابون وتتوالى الأحداث برتابة وإيقاع بليد. أما فيلم «بالأبيض»، إخراج دانية بدير، فيتطرق إلى معضلة اجتماعية نعاني منها في لبنان، إلّا أنّها تشكّل نوعاً من التابو الذي لم تتم معالجته بشكل كافٍ في السينما اللبنانية، وبالطريقة الناجعة التي عالجته بها بدير. فلارا اللبنانية الدرزية تقع في حب اليهودي الأميركي بينجامين، وتحاول إخفاء الهوية الدينية لحبيبها الذي تلتقيه العائلة عند عودة لارا من نيويورك لتواري أبيها الثرى. فتختلط مشاعر الحزن بالقلق، الارتباك واللوم. وتنجح المخرجة إلى حدٍّ كبير في المعالجة الدرامية لكل ذلك. أما فيلم الخيال العلمي، «آخر أيام رجل الغد»، لمخرجه فادي باقي، الذي يجمع بإتقان بين الرسوم المتحركة والمواد الأرشيفية المصوّرة، فيضعنا ومنذ العام 1958 في بوتقة ما جرى حينها من أحداث، من خلال إشراك رجل آلي في مفارقات تلك الظروف التي مرّ بها لبنان. وكأنّي بهذا الرجل الآلي، الذي أهدته فرنسا إلى لبنان، جاء ليعبث بتاريخنا على هواه، حيث يعيش طفولته، بعد عودته إلى الحياة، في الفترة السلمية ما بين حربين ويقرر أن يتحوّل إلى بطل فيلم بعنوان «رجال بلا قلوب».