في عيد ميلاد المخرج والسيناريست والممثل الأمريكي وودي ألن الثاني والثمانين (الأول من ديسمبر/كانون الأول 1935)، لم نجد خيرا من تحفته السينمائية «آني هول» (1977) لننفذ إلى داخل عالمه. في «آني هول» يقدم ألن علامة فارقة في تاريخ السينما، يقدم فيلما يجمع بين القدرة على أن يضحكنا من القلب ويبكينا بصدق، وأن يثير فينا الشجن والحنين، وأن يبقينا مع ذكريات قصص الحب التي تبقى في القلب والذاكرة حتى بعد انقضائها. ربما يمكننا أن نختصر فلسفة ألن الساخرة من نفسه ومن الدنيا بأسرها، في هذه الكلمات التي قالها آلفي سينغر (وودي ألن)، الشخصية المحورية في الفيلم، لمحبوبته آني هول (ديان كيتون): «أشعر بأن العالم ينقسم إلى الفظيع والبائس. هذان هما القسمان. الفظيع مثل، الحالات الميؤوس منها، المكفوفين والمعاقين. لا أدري كيف يتحملون الحياة. أما البائسون، فهم كل الآخرين. لهذا يجب أن تكوني ممتنة أنك بائسة، لأنك من المحظوظين جدا أن تكوني من البائسين». هذا العالم كما يراه ألن، عالم مليء بالشقاء ولا يخفف من وطأته إلا الحب والسخرية من قسوة العالم. علّنا نجد في آلفي سينغر صورة ألن ذاته وجوهره. آلفي هو المثقف المسكون بالسخرية والقلق لدرجة العُصاب، الذي يقدم ألن عيوبه ومخاوفه مضخمة مكبرة تحت المجهر، ليسخر منها ويتعاطف معها في الوقت ذاته. آلفي سينغر هو الفيلسوف والفنان والكاتب والكوميدي، الذي نضحك منه وعليه، ونتعاطف مع هفواته ونتفهم قلقه، ونتعلم منه أن ما يخفف من قسوة الحياة وعبثيتها هو أن نسخر منها، وأن نعيش قصص الحب، مهما كانت قصيرة وعابرة، بعمق وصدق. أنجز ألن في مسيرته الفنية ما يفوق الأربعين فيلما، ولكن يبقى «آني هول» الفيلم الذي نعود إليه كلما اشتقنا لعالم ألن، وكلما أردنا أن نعيش الحب بكل مراحله. لا يكمن إبداع «آني هول» فقط في ذكاء نصه أو في شخصيتيه الرئيسيتين اللتين تشبهاننا في الكثير من مخاوفنا وما يفرحنا، ولكنه أيضا يمثل علامة فارقة في تاريخ الأفلام الكوميدية في العالم بأسره. إنه ليس بالفيلم الذي يأتي فيه الضحك مقحما أو على حساب القيمة الفكرية أو العاطفية، بل يأتي من حتمية حدوثه وكنتيجة للسخرية التي يحملها الموقف. يضم الفيلم مشاهد وعبارات بعينها تبقى خالدة في ذاكرتنا ولا نملك إلا أن نرددها لأنفسنا أو نقصها على أصدقائنا إذا مررنا بمواقف مشابهة. «آني هول» أيضا يرسم معالم شخصية وودي ألن على الشاشة، عندما يلعب هو بطولة أفلامه، أو الشخصية الأقرب شبها به، عندما يضطلع بشخصية ألن ممثل آخر. في أفلام ألن، نيويورك هي عادة المسرح الرئيسي للحدث، ودوما نجد المثقف اليهودي الذي يسخر من ذاته. ألن دوما نيويوركي الهوى والهوية، يشعر بالاغتراب إن غاب عنها، وهو أيضا اليهودي التنشئة، الذي يسخر من نشأته، ولكنه يعلم أنه لا فكاك له منها، وأنها أحدثت فيه تأثيرا لا يمحى. وهو أيضا المثقف الساخر، الذي على قراءته الواسعة واطلاعه الكبير يشعر بعدم ثقة دائم وشعور مستديم بأنه لا يعلم، ويسخر علنا من المتثاقفين المتعالمين المتفاخرين بما لديهم من معرفة زائفة. شخصية آلفي سينغر في «آني هول» هي تصور وودي ألن لذاته، الشخصية التي سيعيد خلقها وظهورها بأسماء أخرى في جل أفلامه. «آني هول» قصة حب ورسالة حب من شخصيته الرئيسية آلفي سينغر إلى حبيبته التي تمنح اسمها للفيلم. في مستهل الفيلم يطالعنا آلفي مخاطبا إيانا، المشاهدين، كما لو كنا أصدقاءه أو شهودا على قصة حبه. يحدثنا مباشرة قائلا إنه انفصل عن آني، فنحن على علم إذن بمآل القصة ونهايتها، ولكن آلفي لا يروى فصول قصته بألم وجزع بقدر ما يرويها بحنين واشتياق وامتنان لحدوثها في حياته. يروى ألفي أيضا قصة حبه علينا في محاولة لفهم كيف انتهت وكيف أخفقت. لا يروي ألفي فصول قصة حبه وفق ترتيبها الزمني، بل هي شذرات وذكريات وحنين تعكسه مرآة الحب والذاكرة. إنها قصة حب أشبه بمنمنة يحاول آلفي أن يجمع ملامحها.