يبدو أن الكُتاب، والكبار منهم خاصة، ينحدرون من سلالة واحدة. فبعد سبعين عاما من موت «الجبلاوي» على يد «عرفة» الذي كشف أسراره؛ «عرفة» الذي لن يحتاج اسمه لأكثر من حرف واحد ليصبح «معرفة»، المعرفة التي نفت الحاجة إلى «الجبلاوي» في رواية «أولاد حارتنا» كما أطلق عليها نجيب محفوظ، والتي نُشرت، أول مرة، في سلسلة على صفحات «الأهرام» سنة 1959. كانت هي الفكرة ذاتها التي دفعت الروائي الأمريكي المثير للجدل، دان براون، صاحب «شيفرة دافنشي» ليضم صوته إلى صوت محفوظ، ويدخل في غابة أسئلته وأسئلة الوجود الشائكة، في روايته الأخيرة الصادرة في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وقد حملت عنوان مكونا من كلمة عارية ويتيمة: «أصل» (Origin)، بلا أداة تعريف أو تنكير ذلك العنوان الذي سيحيلنا مباشرة إلى عنوان آخر، قلب الدنيا ولم يقعدها منذ أكثر من قرن ونصف، ألا وهو «أصل الأنواع» (Origin of Species) 1859 لتشارلز داروين. البداية «من أين جئنا وإلى أين نمضي؟» ما هو «أصل وجودنا كبشر وكيف سيكون مستقبلنا؟» و»هل سيقضي تطور العلوم والتكنولوجيا على الأديان؟»، أو كما يلقيه براون في أحد فصوله، وقد كان عنوان محاضرة سابقة ألقاها في دبي قبل عامين: «هل سيقتل العلم الله أو الرب؟»، إضافة إلى أسئلة لا تخلو من حس كوميدي: هل من الأهون.. العيش بلا «تكنولوجيا» أم بلا «أديان»؟ هذه هي الأسئلة الفلسفية التي يبذرها براون في روايته الجديدة منذ صفحاتها الأولى. وتشكل بمجملها حجر الأساس ل»حبكة الرواية الفكرية» التي سيغنيها بحثا وكشفا وتطويرا في معظم فصول الرواية. هذه الحبكة التي لا تقل تشويقا عن «حبكتها البوليسية» ومَن القاتل ولماذا؟ الحبكة التي تحول الرواية إلى رحلة اكتشاف آسرة، وليس مجرد رواية بوليسية ينتهي مفعولها بمجرد معرفة أو كشف المجرم الحقيقي فيها. يفتتح براون روايته بلقاء بين «أدموند كريش»، عالم المستقبليات الملياردير الشهير، مطور تكنولوجيا العقل أو الذكاء الصناعي والكومبيوترات، المعروف بمخترعاته والأكثر بإلحاده، إذ انشغل لأعوام في بحثه عن عالم بلا أديان. أما رفاقه الثلاثة في ذلك الاجتماع فكانوا: الشيخ سعيد الفضل، عالم الدين الإسلامي القادم من الشارقة، والراباي اليهودي إيهودا كوفش القادم من هنغاريا، والأسقف فالدسبينو الكاثوليكي المحافظ والمُقرب من العائلة المالكة الإسبانية. الغاية من اللقاء هي أن يستطلع آراءهم باكتشافاته التي «ستهز هيبة الإيمان الديني حال إعلانها» وبغية أن يبلغهم ويستشف منهم ما إذا كان لديهم رد منطقي على ما سيطرحه عليهم من اكتشافات، شرط أن يحافظوا على سرية ما سيعرضه لهم إلى أن يُعلنه على الملأ بعد شهر من ذلك التاريخ. من هذا التحدي بين متضادين، تنطلق «مصائب» الرواية الواحدة بعد الأخرى. اللعنة يتواصل ممثلو الأديان الرئيسية الثلاثة في ما بينهم عبر الهاتف، وعبر القارات لكي يهيئوا ردا على ما سيعلنه «أدموند كيرش» حال إعلانه، ولكن ما هي إلا أيام حتى يُعثر على العالم الإسلامي سعيد الفضل ميتا في الصحراء قرب دبي، كذلك تجري تصفية الراباي إيهودا كرفش في بودابست قرب نهر الدانوب. فلا يبقى من رجال الدين الذين كشف لهم كيرش اكتشافه أحد غير الأسقف الكاثوليكي المحافظ والمتنفذ فالدسبينو، الذي سيصبح مغناطيسا للشبهات عبر فصول الرواية التي شغلت 106 فصول تفاوتت في طولها، فمن فصل لم يشغل أكثر من سطور معدودة، إلى فصول تجاوزت العشرين صفحة، جريا على أسلوب دان براون والإيقاع الروائي الذي اختطه لنفسه وأجاده في أكثر من رواية، ووصل إلى ذروة نضجه في «شيفرة دافنشي» التي جعلت منه «الكتاب الأكثر مبيعا بعد الرب وكتابه المقدس» كما وصفه الكوميديان الأمريكي ستيفن كولبير. لا يلتزم أدموند كيرش بوعده لرجال الدين بالحفاظ على سرية ما توصل إليه، ويفاجئ من تبقى منهم، فيعلن عن إقامة مؤتمر سرعان ما يجري ترتيبه في إحدى قاعات «متحف بيلباو غوغنهايم» في برشلونة قبل نهاية الشهر الذي وعدهم به. يبدو المؤتمر، كما يصفه براون، أقرب إلى عروض «ستيف جوب» الشهيرة وهو يقدم منتجات شركة «آبل» الجديدة: شاشات وحضور ما يزيد عن الثلاثمئة شخص من المدعوين جلهم من العلماء والمختصين، إضافة إلى بث حي عبر الإنترنت نال أكثر من ثلاثة ملايين ونصف الملايين مشاهد يتابعون الحدث، الذي وصف بأنه «سيهز قناعات المجتمع البشري السابقة»، وربما سيغيرها إلى الأبد وإلى غير رجعة. وفي لب المؤتمر، وبعد دقائق من بدء أدموند كيرش عرض أفكاره، وأمام الحاضرين يجري اغتياله قبل أن يعلن ما توصل إليه، يتهاوى الرجل سريعا مضرجا بدمائه وسط دهشة وذعر الحاضرين ودهشة المتابعين للحدث «لايف» عبر الشاشات. ومن هنا تنطلق «حبكة الرواية البوليسية» التي لن يقوى أحد على حلها غير بطل دان براون الأثير: «روبرت لانغدون» الذي رافقه في رواياته الأربع السابقة. اللعبة الأثيرة وفي الحقيقة، أن «روبرت لانغدون» كان حاضرا أيضا في «متحف بيلباو غوغنهايم» برشلونة منذ وقت مبكر؛ فقد كان الضحية أحد تلامذته في جامعة هارفرد، وتجمعهما صلات ولقاءات عديدة، وقبل دقائق من مقتله طلب القتيل من روبرت لانغدون أن يقدم نبذة تاريخية عن الصراع ما بين الدين والعلم، وهو ما ورط لانغدون وجعله لا يُعد من ضمن الحاضرين في المؤتمر فقط، وإنما من المساهمين فيه، وهذا ما وضعه في قائمة المستهدفين أيضا، حاله في ذلك حال مديرة المتحف الجميلة، آبرا فيدال خطيبة ولي العهد الإسباني الأمير جوليان، وهو ما سيوجه أصابع الشك إلى العائلة الملكية الإسبانية ذاتها، ويقود إلى تأمل التحولات التي جرت في إسبانيا بعد موت فرانكو، وتحول نظام البلاد من الكاثوليكية إلى العلمانية. يسارع لانغدون لانتزاع هاتف القتيل، يفتحه ببصمته ويفر بصحبة مديرة المتحف هاربا، وقد حصل على منجم أسرار اكتشافات أدموند كيرش التي دفنها في هاتفه، والتي سيحتاج لانغدون إلى اكتشاف الرقم السري المكون من 47 حرفا لكي يتوصل إلى ما اكتشفه. يلوذ لانغدون مع آبرا فيدال بالفرار من المتحف، يرافقهما «ونستون» هذه المرة، وهو ليس شخصا حقيقيا له كيانه البشري الفيزيائي، وإنما عقل ذو ذكاء صناعي مربوط بكومبيوتر في مكان ما، ويجري الاتصال به عبر «هيدفون» صنع خصيصا لذلك. وقد اخترع كيرش ونستون وجعله مساعده الشخصي المطلع على كل أسراره، طريقة تفكيره، ووجهات نظره، وهو في ذلك أقرب إلى العلاقة التي ربطت ما بين دان براون ذاته، وبطله روبرت لانغدون الذي تجاوز حضوره في روايات دان براون أكثر من حضور خالقه. حكاية لانغدون لعل السر في نجاح شخصية لانغدون قد أتى من مصادر استلهامه. فقد كان براون، ابن أستاذ الرياضيات ومطور مناهج دراسته وواضع عدة كتب فيه، قد شغف بأعمال أحد أصدقاء والده: «جون لانغدون»؛ وهو أستاذ التصميم الطباعي في جامعة دريكسل، عُرف بتفننه في خلق أشكال طباعية جديدة عُرفت بالأمبغرام (Ambigram) وهي كما لو تكتب كلمة، أو ترسم شكلا فنيا أو رمزا ويمكنك رؤيته من جميع الجوانب، بدون أن يفقد معناه الأصلي أو يولد معنى أو دلالة أخرى، إذا ما قلبت الصفحة أو غيّرت زاوية النظر إليها، أو نظرت إليه من عدة اتجاهات. ونتيجة شغف براون بأعمال لانغدون الأصلي (جون لانغدون وليس روبرت) فإنه طلب منه أن يصمم له ألبومه الغنائي الثاني. فقد كان دان براون مطربا ومؤلفا غنائيا وملحنا. أصدر ألبومه الأول «وجهات نظر» عام 1992، ولم يبع منه غير بضعة مئات من النسخ، إلا أن حلمه بأن يصبح مطرب بوب ناجحا استمر، فانتقل للعيش في لوس أنجليس ودرس الموسيقى فيها، ليصبح قريبا من هوليوود. وما أنجز أغاني ألبومه الجديد، سنة 1994، حتى لجأ إلى صديق والده جون لانغدون، ليصمم له غلاف ألبومه الذي اختار له عنوان: «شياطين وملائكة» والذي سيكون عنوان رواية لاحقة له، بعد أن تحول حلم مطرب البوب أن يصبح روائيا. أما «روح» روبرت لانغدون، فقد «قبض» عليها براون – كما اعترف قبل أشهر لصحيفة «نيويورك تايمز» قبل خمسة أشهر- فقد استوحاها من شخصية المُتبحر بالميثولوجيات، أستاذ الأديان الشهير جوزيف كامبل «هذا الكشف الذي فسر لي غرامي بشخصية لانغدون؛ إذ طالما كنت شغوفا بمؤلفات كامبل، اللقاءات معه وحواراته، قدرته على الربط بين الأديان والأحلام والأساطير. كامبل الذي حرر العشرات من كتب يونغ، والذي بات يعتبر من أهم المفكرين الذين غيروا في معتقدات المجتمع الغربي وتجربته الروحية إلى جانب مفكرين لا يتجاوزون عدد الأصابع». أما كتابه «البطل بألف وجه»، الذي ما زال حيا ويصدر بطبعات جديدة منذ نشره في عام 1949، فقد حدد فيه ملامح البطل، أي بطل، والمراحل التي يمر بها منذ أوديب سوفوكليس وحتى «نيو» في فيلم «الماتركس». وقد لجأ إليه جورج لوكاس واستعان به شخصيا ليصبح مستشارا له أثناء التحضير لفيلم «حرب الكواكب» بجزئه الأول، وهو ما أحدث قفزة في الفيلم ما زال يشهد لوكاس بالفضل فيها له. البوليسي والفلسفي وهكذا أيضا تجاورت في الرواية الحبكتان: «الحبكة بوليسية» عن قاتل وقتيل ودوافع ووسائل وأدلة ومتآمرين، يدخل فيها القصر الملكي الإسباني طرفا، والملك خوان كارلوس وولي العهد المُتخيل – الذي أعطي اسم الأمير جوليان هنا – من جهة، و»الحبكة الفكرية» أو الفلسفية، العلمية والتكنولوجية التي يتسنى للقارئ بحثها مع واحد من أندر الشخصيات الروائية إمتاعا وقدرة على توصيل المعلومة بثراء أخاذ، إضافة إلى الجانب المعرفي والمعلوماتي والتحليلي، كما جاء في معظم رواياته، فمن معمار فرانك غيري إلى الحرب الأهلية الإسبانية وقبر فرانكو، ومن نيتشه و»موت الإله» إلى وليم بليك واستبصاراته، ومن الكاتدرائيات الفخمة إلى الطائرات الخاصة والمدن بأماكنها الخفية وأسرارها، تاريخها ودهاليزها. موسوعة هائلة ومرتبة جعلت الحبكتان تتنافسان أحيانا، تتقاطعان وتكمل إحداهما الأخرى قبل أن تلتئم دائرتانهما معا، وقد خلفتا بحثا رصينا يزداد ثراء بطرحه للحقائق بدون انحياز أخرق، وبدون ظلم طرف أو التجني عليه؛ وكأنه يعطي ما للعلم للعلم، وما للدين للدين، بدون مُداهنة، لينكشف كل طرف إزاء الآخر ومقارنة به، وما على القارئ، الذي وضعت أمامه معظم الخيارات، إلا أن ينتقي، يحلل ويختار! سيبقى ولن يفنى في النهاية يتكشف لنا، أن ليس هنالك من نظرية بإمكانها أن تنسف الأديان، ولكنها يمكن أن تضيف دينا آخر! وهو في ذلك خالف إرادة «عرفة» في «أولاد حارتنا» الذي تسبب بموت الجبلاوي، بينما جبلاوي دان براون في «أصل» لا يموت، ولكن بالإمكان النظر إليه من زوايا أخرى.. وهو ما سنتركه لقارئ الرواية لمعرفته، ولا نريد هنا أن نفسد عليه لذة اكتشافه. …. كاتب عراقي/ أمريكا