يضم هذا الكتاب “خرجت على القطيع.. رؤى فلسفية” لأستاذ الفلسفة بجامعة الأميرة بسمة للتكنولوجيا بالأردن جورج الفار مجموعة خواطره التي تركز على الذات؛ في محاولتها لإعادة اكتشاف ذاتها وعلى العالم لاكتشافه بمقاربته الذاتية، وذلك سعيا للإجابة على عدة أسئلة لإيضاحها لذاتها منها لماذا الحفر في الذات وفي التكوين والنشأة؟ هل هو حنين غير واعٍ للطفولة؟ أم أنه محاولة للدخول إلى عمق الكائن الإنساني؟ وهل تمثل هذه العودة إلى دفاتر الماضي القريب أو البعيد، استجابةً لشعور دفين بإفلاس الحاضر؟ ولماذا الكتابة عن “الأنا” “الآن وهنا”؟ أهي محاولة غير واعية لتبريرها أو لإعادة إنتاجها بطريقة جديدة ولتثبيت مركزيّتها؟هل هي محاولة لاكتشاف “الأنا” الدياليكتيكية التي تواجه العالم الموضوعي، وإماطة اللثام عن الصراع الذي عاشته الأنا في مواجهة مع موضوعها؟ ماذا عن العالم؟ وماذا عن الكون الذي يقع خارج الذات؟ وغيرها. ويشكل الكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون” وفقا للمؤلف “ثمرة لتأملات وتساؤلات فلسفية وخواطر وجودية، كتبتها ولم أجرؤ على نشرها إلا بعد استشارة بعض الأصدقاء الذين رحبوا وقرأوا المخطوطة ودعموا فكرة النشر”. يقول “ما زلت أعتقد أن وجود الكون مستقل عن وجودي الفيزيائي، إلا أنني أؤمّن له وجوداً ذكيّاً ومدركاً، فوجودي (كإنسان) يجعل وجوده مدركاً، فهو لم يستطع إدراك ذاته وحده؛ لذا كان الإنسان ذا أهمية خاصة. فإذا وُجِد على هذه البقعة من الكون ‘أناس‘ 7 مليارات منهم تقريباً، فربما كانوا الوحيدين في هذه المجرات الواسعة؛ لذا لوجودهم ولكُرتهم الأرضية الصغيرة أهمية خاصة؛ لأنها وفّرت لهم الحياة، وهم وفروا بواسطتها الإدراك لهذا الكون الشاسع. ما يهمّ الكون أن يكون مدركاً أم لا من قِبل الإنسان؛ فهو ليس بعاقل ليفهم أهمية الإدراك والذكاء، إلا إذا كانت قوانينه المادية تسمح بتوفر الحياة ومن ثَم تطور مادته في لحظة معينة، وفي زمان ما، وفي مكان ما، أنتج هذه الطفرة الإنسانية الذكية التي تعود إلى مادتها الأولية لتفهمها”. ويضيف جورج “إذا كنا نحن إبداعاً كونيّاً، فنحن إذن بهشاشتنا وصغرنا وضعفنا أهم إبداعاته على الإطلاق. وهذا ما لم نكتشفه سابقاً، وربما نغض الطرف عنه الآن أيضاً، فإحدى مشكلاتنا الرئيسة أننا ننشغل بذواتنا (الصغيرة) وصعوباتنا وعالمنا الضيق، وننسى وجوده. لقد ذكرنا ‘هيدغر' بالوجود، ولكنه ضاع هو الآخر في غمرة وجوده وتفسيره والدوران في حلقته. كم من الزمن سيحتاجه الإنسان للخروج من ذاته بعد أن يحلّ مشاكله معها ويلتفت إلى الوجود العظيم وإلى الكون الواسع؟ فهذا الذكاء في أحد جوانبه نعمة وفي الجانب الآخر نقمة، لأنه مضطر أن يعي نفسه، قبل أن يمر إلى وعي الكون والوجود من حوله، ووعي الإنسان لنفسه ما زال يسير ببطء شديد والخوف أن يفني هذا الإنسان ذاته، قبل أن ينتشل نفسه من هوة ‘أناه' ليلتفت للوعي بالوجود وبالكون”. ومن بين الأسئلة التي خصص لها جورج مكانا خاصة للإجابة عليها سؤال لمَن نكتب ولماذا؟ حيث سرد رحلته مع الكتابة، فيقول “عندما نشرت كتابي الأول ‘حديقة راهب' في عام 2001 كتبتْ لي سيدة مُسلِمة من العراق قالت في رسالتها ‘إنها سرّت جدّاً بقراءة الكتاب، ووجدت نفسها فيه'. فأثارت فضولي وكتبت لها متسائلاً ‘كيف وجدتْ نفسها في كتاب يتحدث عن حياة راهب مسيحي؟'. أجابتني ‘أنها درست في مدرسة داخلية للراهبات، وما قلتُه عن تجربتي في المدرسة الداخلية كانت قد عاشته في مدرستها الداخلية أيضاً'.. فقلت في نفسي ‘رُبّ رمية من غير رامٍ'، كيف تتقاطع حياة البشر وتتشابه في وقت لم أكن أتخيل فيه أن يكون الأمر كذلك؟ بعدها نشرت كتابَيّ الثاني والثالث ‘عارياً أمام الحقيقة' و'بهاء الأنثى'، بعد انقطاع دام سبع سنوات عن النشر. ركبت يوماً سيارة أجرة ‘تاكسي' لأذهب إلى الجامعة، وهناك على الباب أوقف الأمن سائق التاكسي، فاضطررت للتعريف بنفسي ولفظت اسمي للأمن الجامعي حتى يدع التاكسي يدخل إلى حرم الجامعة. وعندما سمع سائق التاكسي الاسم، سألني ‘أأنت مؤلف كتاب ‘عارياً أمام الحقيقة'، و'بهاء الأنثى'؟، قلت له ‘نعم، أنا هو'، فقال ‘أريد أن أناقشك في الفقرة الفلانية من صفحة 38 في كتابك ‘عارياً أمام الحقيقة'، وفي الجملة الفلانية التي أوردتها في كتابك ‘بهاء الأنثى' صفحة 53.. فتحت فمي دهشة أمام سائق التاكسي المثقف، الذي كان قد قرأ كتابَيّ بدقة وما زال يتذكر الفقرة والجملة والصفحة وأنا كنت قد نسيتهما”. ويشير جورج “رحلتي مع الكتابة بدأت منذ الصغر، عندما كنت أكتب مقالاً لمجلة الحائط في المدرسة الداخلية، بعدها تطوّرت كتابتي إلى مقال في جريدة ما، ولم أكن أجد الوقت لكتابة كتاب كامل، حتى قررت أن أكتب كتابي ‘حديقة راهب'، وكنت قد كتبته في أوقات الفراغ بين رنين هاتفي أو رنين جرس المكتب، وضمّنت فيه مرحلة من عمري، ومع أنّي قد غادرت حياة الكهنوت إلا أنني ودعتها في هذا الكتاب. انقطعت بعده لكتابة أبحاثي في الجامعة إلى أن قررت ترك حياتي السابقة وإحداث تحول جذري فيها، ففي تلك السنة (سنة 2008) كتبت كتابي الثاني ‘عارياً أمام الحقيقة'، حيث رصدت فيه التحول الفكري والحياتي الذي حدث معي، ورددت فيه على كلّ من اتهمني بالخيانة وروّج أني تركت الكهنوت من أجل امرأة ما.. وعندما تزوجت وحملت زوجتي وأنبأنا الطبيب أن جنس المولود أنثى، كما حلمت ورغبت، حتى وجدت أن نفسي تجيش بعواطف فياضة لم أستطع معالجتها إلا بالكتابة، فكتبت لهذه الطفلة المنتظرة خمسين رسالة وعنونت الكتاب ب'بهاء الأنثى'؛ رسائل إلى ابنتي المنتظرة”. ويلفت جورج إلى أنه بعد أن بدأ بتدريس الفلسفة، كان الطلاب يسألونه عن مذهبه الفلسفي، فكتب كتاباً أسماه “عودة الأنسنة” إلى الفلسفة والأدب والسياسة.. وبعد عدة تأملات فلسفية ورحلات بين الأماكن والناس والأفكار كتب كتاباً عنونه ب”آفاق فلسفية أمكنة وأناس وأفكار”.. حيث قال “لم تمضِ سنة دون إصدار كتاب، وكنا مجموعة من الأصدقاء قد أجرينا حوارات فلسفية مُطولة حول الدين والمقدس والعلم، وقررنا كتابة هذه الحوارات بشكل أسئلة وأجوبة وتعليقات فخرج منها كتاب أسميناه ‘المقدس والسؤال الفلسفي' طُبع في لبنان- المكتبة الثقافية”. ويستطرد قائلا “بعد ذلك خُضت تجربة الرواية فكتبت روايتين؛ الأولى لم أُصدرها، والثانية قررت نشرها وهي بعنوان ‘ابن الإنسان'؛ صدرت عن دار الأيام في عمان 2015، ولاقت رواجاً خارج الأردن، فدُعيت إلى الكويت لمناقشتها والتحدث مع القرّاء حولها. ومَضتْ سنة كاملة وجدت نفسي أُدرّس مادة ‘فلسفة الدين' في الجامعة، وعندما بدأت أبحث عن مراجع مختلفة لأُنبه الطلاب إليها، وجدت أن المكتبة العربية فقيرة جدّاً في كتب فلسفة الدين، فقررت أن أضع كتاباً في تلك المادة. فكتبت كتاباً عنونته ‘الفلسفة والوعي الديني'، وتفاعل الطلاب مع الكتاب ومع المادة بشكل جيد، وكانوا طلاباً للماجستير وللدكتوراه، فطلبت من كل واحدٍ منهم قراءة وعرض نقد كتاب في فلسفة الدين، فقدموا مجموعة قرارات جيدة، جمعتها كلها وقدمت لها وأشرفت عليها وضممتها في كتاب أسميته قراءات في فلسفة الدين”. ويؤكد “الكتابة لا تأتي من الفراغ، إنما من عقل يُحاول أن يُنتج أفكاراً جديدة، ومن إرادة تُصمّم وتعمل على تدعيم الفكر الفلسفي، ومن شغف وحب الناس، تشاركهم وتتشارك معهم حتى في أعمق أفكارك وفيما فكرته لنفسك أصلاً. لذا ما زلت أكتب للناس الفقراء والبُسطاء، لسائق التاكسي وللسيدة العراقية وللعامل ولربة الأسرة وللمُعلم والمعلمة وللمثقف وللطالب الباحث عن الحقيقة. فارتكاب فعل الكتابة هو نفس ارتكاب فعل العيش والتنفس والمشي والتعبير والتحرر من الضغط والتواصل مع الناس وتجاذب أطراف الحديث معهم، هو عمل يومي وحياتي ومنتج. لا يهمّني التصنُّع وتشذيب الأقلام والفروع، فعادة ما أتركها على سجيّتها، أُسلّم نفسي لقلمي ودفتري وأجعلهما يقوداني إلى حيث يشاءان، أو أُسلّم نفسي إلى إرادة الحياة ذاتها وأدعها تفعل بي ما تريد، فإذا واتتني لحظة الكتابة أجلس على طاولتي وأكتب”. خصص جورج القسم الثاني من خواطره لتفاعلاته مع الفضاء الإلكتروني حيث أكد أنه تفاعل مع هذا الفضاء بجدية فكرية واستعمله قبل أن يستعمله، ليوصل أفكاره وتأملاته وأحلامه إلى أكبر عدد من الناس ومن الأصدقاء، وليسمع منهم وليرقب اهتماماتهم وطموحاتهم وخيباتهم. ويقول “لم يخذلوني بل تجاوبوا معي، وصار عدد أصدقائي يفوق الثلاثة آلاف من مختلف المشارب والخلفيات يسكنون في القارات الخمس. تأملت وفكرت قبل أن أُقرر الكتابة على الفيسبوك لاعتباري بأن الكلمة والكتابة فعل التزام وفعل تنوير للآلاف من البشر. انتقدت وفكّكت وحلّلت ونوّهت وأنرت، بسطور قصيرة، وجُمل بسيطة سريعة وبكلمات واضحة، وكثيراً ما حذفت وعدّلت ما رأيته غير مناسب أو لا يتسع له المكان، إلا أنني في النهاية كتبت ما أريد قوله”. ويلفت إلى أن أعدادا كبيرة من المنشورات التي وضعها على الفيسبوك تزامنت وتشابهت مع مواضيع هذا الكتاب وفصوله “لأن نفس الأفكار كانت تراودني في تلك المرحلة، فإذا كتبتها في الكتاب تكون مُسهبة ومريحة ومدعمة، وإذا كتبتها على الفيسبوك تكون سريعة مكتظة ومختصرة وفي بعضها إبداع وفي أخرى تنوير وفي بعضها الآخر تنبيه ولفت نظر ونقد للمجتمع وللسياسة”. .... كاتب من مصر