قد لا يحتاج هذا الحوار مع الشاعر الإماراتي عبدالعزيز جاسم إلى تقديم، فما دار خلاله من نقاش كاف لتقديم الشاعر في تجربته الفريدة ومساره الذي استهله بدءاً من الثمانينات. وقد تكون مناسبة هذا الحوار وهي إصدار الشاعر الجزء الأول من أعماله الشعرية عن دار التنوير(بيروت - القاهرة) حافزاً على استعادة أحد أبرز الأسماء في الحركة الشعرية الإماراتية والعربية الجديدة. وما يميّز هذا الشاعر، شخصاً وتجربةً، هو العيش الحر للشعر والكتابة المفتوحة على الحياة ومصادفاتها. يصدر الشاعر ديوانًا ثم يغيب أو ينقطع عن النشر، ولا يلبث بعد فترة قد تطول، أن يطل بديوان جديد مفاجئاً أصدقاءه أولاً وقراءه الذين هم قراء الشعر. وقد تكون الخطوة التي أنجزها في جمع أعماله الشعرية بادرة مهمة تعيده إلى المشهد الشعري العربي الراهن الذي يعد هو واحداً من أركانه الرئيسة. - صدور الجزء الأول من أعمالك الشعرية في نحو خمسمئة صفحة، يكشف هويتك الشعرية والموقع الذي تحتله في المشهد الشعري الإماراتي والعربي الجديد. وتنم هذه الأعمال التي تجتمع بعد شتات زمني ومكاني، عن تجربة مهمة ومتفردة لم يلق عليها الضوء الذي تستحقه فعلاً. ما الذي دفعك إلى جمع هذه الأعمال في مجلد أول؟ هل جمع هذه الدواوين أتاح لك فرصة أن تستعيد مسارك الشعري وتعيد اكتشافه مثلك مثل قرائك؟ أعتقد بأن فكرة جمع الأعمال الشّعريّة في مجلد واحد، تشبه إلى حدّ بعيد لملمة أشلاء أو أشياء أو رموز أو عوالم أو ذكريات مبعثرة، أو جمع قطع لغز متناثرة. ولكن هذه الفكرة ذاتها، وبالمعنى الصوفي والفلسفي والأدبي حتّى، تعبّر في العمق عن كيفية جمع المتعدّد في الواحد، ومعرفة حقيقة الواحد في تعدّده. فبما أن مصير كل كتاب نصدره، هو الانفصال والترحال والتأثير في الآخرين بمعزل عنّا، فإن هذا النوع من الأعمال الجامعة، الأعمال التي تجمع كتباً في كتاب، تقوم بدور الكشَّاف الضوئي الكبير وليس المصباح الصغير، بحيث تعطي سطوعاً أكبر على تجربة الشاعر نفسه وعلى كتاباته. ولعل هذا الشكل، ومن خلال الأعمال الشّعريّة، يتحقق حلم الشاعر – الواحد في متعدده الشّعري، والعكس صحيح، ويمنح القارئ والمختص رؤية أشمل وأعمق للتعريف بمساره وحساسيته وهويته الشّعريّة وموقعه كشاعر، بدل الاكتفاء بتلك الصورة الناقصة أو المختزلة عادة عن تجربته ككل. لذا، ومن أجل أن أقف أمام تجربتي الكتابية، وأفسح في المجال لنفسي لخوض تجارب شعرية جديدة ومختلفة لا أكرر فيها نفسي. قمت بإصدار الجزء الأول من أعمالي الشّعريّة، وجزءين من أعمالي الفكرية والنثرية، دفعة واحدة، ولدي فوق هذا وذاك، كثير من المخطوطات التي سأصدرها تباعاً. وذلك، كي أؤكد تعددي وتنوعي في وحدتي. فترات تحوّل وصمت - عندما أصدرت ديوانك الأول «لا لزوم لي» عن دار الجديد في بيروت عام 1995، تم الترحيب به وبك بصفتك صوتاً جديداً آتياً من الإمارات، لكنك في الحقيقة بدوت صوتاً طالعاً من عمق المختبر الشعري العربي الحداثي، وبدا ديوانك بعيداً من شبهة الديوان الأول نظراً إلى نضج أدواته. ثم غبت. وبعد 15 عاماً أصدرت ديوانك الثاني «افتح تابوتك وطر»، والثالث «آلام طويلة كظلال القطارات». ثم توقفت عن النشر، لتعيد الآن نشر الدواوين الثلاثة معاً. هل تعتبر أن هذه الدواوين هي خلاصة التجربة التي ميزتك شاعراً يملك أدواته الخاصة ولغته الخاصة ورؤيته إلى العالم والقصيدة؟ وما سر هذا التقطع في النشر؟ نعم، أتصور ذلك. وهذا يعود إلى فترات التحوّل والصمت الطويلة التي عشتها بين كتاب وآخر. أما ما يتعلق بمسألة تقطعي في النشر، وهي التي تدخل في صلب هذه التحولات والصمت، فدعني أوضح بعض الأشياء في خصوصها. في الحقيقة، إن المسافة الزمنية التي تفصل بين كتابي الأول «لا لزوم لي» في منتصف التسعينات (والتي تعود نصوصه كلها إلى فترة الثمانينات)، وبين كتابي الثاني والثالث، هي 15 عاماً كما ذكرت. وهي كما تلاحظ، فترة كبيرة وطويلة، من الصمت الإيجابي والتأمل والمراجعة وعدم الانتظام في النشر. ولكني على رغم ذلك، لا أشعر بالندم على تأخري في النشر مطلقاً. فأنا مُقِل في النشر، هذا صحيح، ولكني مكثر في الكتابة. بل أزيد وأضيف، بأني صارم ووسواسي، ولا أرضى عمّا أكتبه بسهولة. وهذا يعود إلى قناعتي، بأن الإبداع عموماً لا يقاس بالكم وإنما بالكيف، وبمدى ما أحققه من إضافات ترضيني أنا أولاً قبل غيري. إن الفن المبجل مثلاً الذي تحدث عنه نيتشه، لا يكون على شاكلة إنتاج الدواجن اليومي أبداً، وإنما يتطلب شيئاً واحداً قبل سواه: الوقوف جانباً، عدم التسرع، التزام الصمت، والتأني. أي أن هذا الفن، لا يحتاج إلى العجلة والمتعجلين والمتهافتين على النشر، ولا حتّى إلى أولئك الذين يكررون تجاربهم ذاتها في كل مرة ولا يضيفون شيئاً جديداً، وإنّما يحتاج إلى المزيد من الصبر والمراجعة والتأني والدّقة التي يتصف بها الشّعر خصوصاً والكتابة عموماً. ولقد قال ابن النفيس، بما معناه: إذا لم يصمد الكتاب الذي أكتبه لمدة 500 سنة، فما حاجتي لتأليفه؟ تصور! فمن يطرح على نفسه مثل هذا السؤال الهائل اليوم؟ بخاصة ونحن نشهد حالياً، كتابات أو كتباً تولد متسرعة أو مشوهة أو ميتة أو غير مكتملة النمو في الغالب. المسألة إذاً في تصوري، ليس أن نكتب لمجرد الكتابة فقط، وأن نستعجل نشر ما نكتب، وإنما أن نمنح ما نكتب أولاً الطاقة الحيوية الكامنة واللازمة للاستمرار والبقاء، حتّى بعد موتنا. وهذا ليس له علاقة بأوهام الخلود والمجد، وإنما له علاقة وثيقة بمدى الإخلاص والوفاء للكتابة، أولاً وأخيراً، لهذا، وكما يقول جيل دولوز، يجب أن نُعدّ طويلاً من أجل بضع دقائق من الإلهام. - ترسم للشاعر كما تنظر إليه صورة مضمرة، فهو في قصيدة «الشاعر إن مشى» ينتهي جالساً تحت شجرة الخروب، وهو كذلك «المنشق عن الحلقة وعن الحظيرة». وهو الغريب كما تقول الذي يفتح تابوته ويطير ولا يرتهن لقفل ولا لخريطة، والذي يتنشق نسيمه من الأعالي. كيف تنظر إلى الشاعر الذي هو أنت؟ نموذج الشاعر الذي أراه قريباً مني وملتصقاً بفكري وبتكويني ورؤيتي، هو الشاعر الملّاح، المتمرّد، المستوحد، الحر، من يفتح صدره للرّيح والمطر والحبّ والحياة ويتنفس هواء القرون كلها. إنه الشاعر الذي لا يفكر في الوصول إلى نقطة أخيرة، بمقدار ما يفكر بالذهاب ومواصلة الرحلة. لأن ذهاب الشاعر إلى الشّعر، أي إلى منصات السّفَر التي تتجلّى في كل شيء حوله، هو تهيؤ للسفر والإبحار والانطلاق إلى عوالم جديدة. لهذا، تجده في حالة سفر دائم، حتّى ولو لم يتحرك من مكانه. فهو ببصيرته وحدسه وخياله ولغته، يستطيع أن يتنقل من مكان إلى مكان ويتجاوز كل الحدود وكل التصورات في لمح البصر. لكن سفر هذا الشاعر في العمق والجوهر، ليس سفراً مجانياً ولا اعتباطياً، وإنما هو سفر من أجل تحرير شيء ما، إخراجه من ظلمته وسباته، إعتاقه، ووضعه في ضياء القصيدة، وتغيير معناه، ومنحه شهادة ميلاد جديدة. من هنا، يتمثل لي عمل الشاعر الأساسي، في عمله الدائب ضدّ النّسيان. أي ضدّ الموت والمحو، ونسيان أصول الأشياء والكائنات والأماكن، وإيقاظ روحها من سباتها وإعادة حياتها من جديد إلى الوجود، وبالتالي إدخالها في الحاضر الأبدي للشّعر والقصيدة معاً. هكذا إذاً، وعبر التحام الشاعر بالكون، واستعادته تجارب إنسانية ضائعة وغائبة تحت ركام الحياة العادية، يعيد إلى هذا الوجود وإلى الواقع ذاته، شيئاً من نوره ونضارته وطفولته وآدميته المنهوبة والمفتقدة. لهذا السبب، أجدني منحازاً بكليتي إلى الشعراء الذين ينظرون إلى الشّعر كفلسفة وجود وخلق وتجريب، وليس لمن يتعاملون معه بخفة واستسهال أو على أنه مجرد تسلية أو شكل أدبي منمَّط وقابل للاستنساخ في كل مرة. التجربة المغربية - أمضيت سنوات في المغرب منقطعاً إلى حال من العزلة حتى بدوت كأنك اختفيت عن الساحة الشعرية. كيف تسترجع الآن إقامتك المغربية، وماذا أضافت برأيك إليك كشاعر أولاً ثم كشخص أو فرد؟ سؤالك هذا يا عزيزي، يتطلب مني تأليف كتاب عن تلك التجربة، وليس مجرد إجابة صغيرة وغير وافية، وأنا هنا ليست لدي المساحة الكافية لقول كل ذلك. وعلى العموم، وباختصار شديد، أقول: إن إقامتي المغربية أو الطنجاوية بالأحرى، هي من أغنى التجارب التي عشتها في حياتي. لقد عشت بين شعب شقيق أحببته، وتلامست معه حياتياً وثقافياً من الداخل، وكونت فيه صداقات أعتز بها، وتأثرت بأجوائه وفضاءاته الغنية جداً. ففي طنجة، أستطيع القول: إني عثرت على نفسي، بخاصة على المستوى الفكري والتأمّلي العميق. كما أنني عثرت على القصيدة التي أبحث عنها، القصيدة الملموسة الواضحة كوضوح الشمس، والتي تراها حيّة وشهية ومتجسدة أمامك في كل ركن وصورة ومشهد، وليست القصيدة الشبحية المتخيلة والمتخفية والمطمورة كإبرة بين التلال. ففي المغرب، لا يبحث الشاعر عن القصيدة، كما في مناطق أخرى، وإنما القصيدة هناك جريئة وحرّة ومنطلقة كامرأة مستحيلة، وهي التي تبحث عن شاعرها وتدق بابه وتستضيف نفسها في بيته. فقط، عليه أن يعرف كيف يتعامل معها، وكيف يقدّر هذا الكرم والحبّ كله ويثمنهما. - يبرز لديك معجم محلي مرتبط بالذاكرة والأرض والأب الذي تخصه بقصيدة تقول له فيها «كأننا ولدنا معاً»... وعبره تستعيد صورة البحار الذي كانه. هذا العالم المحلي يشكل في الكثير من القصائد خلفية مكانية وزمنية واضحة: طيور الدغناش، البازي، السلطعون، قرية الماء، البواشق، الجميزة... كيف تنظر إلى هذا الحضور الداخلي للمكان الأول في شعرك؟ هل شكل فعلاً مصدر استيحاء وإلهام أم إنه مغروز في ذاتك ولا وعيك؟ أظن، أن كل واحد منّا، يحمل في ذاكرته ولا وعيه وشوم مكانه الأول، والتي من المستحيل أن يتخلص منها، لأنها علامات التكوين الأولى. وهذه العلامات هي عوالم كامنة أو مطمورة تحفزنا أحياناً وترسم لنا نوستالجيا بيضاء مكتملة وعالية، سنظل نحملها في دواخلنا إلى الأبد. لهذا، من الطبيعي أن تحضر تلك العوالم في قصائدي، وأن تصبح مصدراً للإلهام الدائم لي. فأنا في النهاية ابن مكاني الأول. جيل مظلوم - تنتمي إلى جيل من الشعراء الإماراتيين الذين نجحوا في تأسيس قصيدة إماراتية جديدة، سواء كانت قصيدة نثر أم قصيدة حرة. كيف تنظر إلى هذا الجيل وإلى موقعه الراهن وإلى علاقته بالذائقة التقليدية أو المحافظة؟ الجيل الذي أنتمي إليه، جيل الحداثة الشّعريّة في الثمانينات في الإمارات، هو جيل قد لحقه ظلم كثير، ولم تتم قراءته وتبيان أهميته ومدى ما مهد له من أرضية صالحة لمجيء الأجيال اللاحقة، بالشكل الذي يستحقه حتّى اليوم. وأنا هنا لست في وارد تقييم تجربة كل فرد من أعضاء ذلك الجيل، ولكني أقول: إن جل من كتبوا عن ذلك الجيل، كتبوا بتسرع أو بسطحية في الغالب، ولم يستطيعوا قراءة خطابه الحداثي - التنويري، ولا مواقفه المتمرّدة على الواقع وعلى الذائقة التقليدية، ولا نصوصه ولقاءاته وتجمعاته وحواراته الساخنة الغنية المعلنة وغير المعلنة، ولا النقلة الكبيرة التي أحدثها مثلاً في تجديد الكتابة وإثارة الأسئلة الصميمية حولها وتثوير مفهوم الشّعر والقصيدة والنقد والفن في الثقافة الإماراتية عموماً، في تلك السنوات الفائرة والصاخبة من الصراع مع الذائقة المحافظة ومع خطاب تنظيم «الإخوان المسلمين». فهذا الجيل الذي حورب وهمش وكفّر وطاولته التهم والأقاويل الكثيرة، لم يرضخ ولم يستسلم ولم يُدَجَّن ولم يتراجع عن خطابه الحداثوي - التنويري، بل إنه استطاع على رغم كل ذلك أن يفرض وجوده وحضوره بقوة مؤثرة وفاعلة في الوسط الثقافي حتّى اليوم. فهذا الجيل، جيلي، وأنا أترحم على من مات منهم: أحمد راشد ثاني، علي العندل وجمعة الفيروز، قد تشكل عبر تجارب ومراجع فردية جاءت من مناطق وظروف ومشارب مختلفة في الإمارات، ولم يكن نتيجة قرار جماعي مثلاً، لأننا لم نكن حزباً ولا تنظيماً سرياً، إلّا أن ما كان يجمع بيننا من مشتركات، يعود أولاً إلى تكويننا واختيارنا الفردي لخط الحداثة الشّعريّة والأدبية عموماً، عربياً وعالمياً، وكتابة قصيدة النثر التي كانت مرفوضة ومستهجنة ومُحارَبَة في ذلك الوقت، والانفتاح في قراءاتنا وكتاباتنا على تجارب العالم وفلسفاته وعلى الفنون كلها. لقد تحلّى هذا الجيل بالعصامية، والشجاعة الكتابية، والعناد، والتمرّد، والمواجهة النقدية المكشوفة والصريحة لما يدور في المشهد الثقافي كله الذي كان يهيمن عليه الخطاب التقليدي المحافظ، ويعج بكثرة المتسلقين وتجار الشنط والتعامل بالزبونيات الفجة والفاضحة في الصحافة والإعلام عموماً. لهذا، أقول: إن تجربة هذا الجيل التي تستحق المزيد من العناية والدراسة والاحترام، هي التجربة الفعلية المؤسسة مشروعَ الحداثة الشّعريّة والأدبية في الإمارات، والتي تقاطع وتداخل معها بعض التشكيليين والمسرحيين والقصاصين، خصوصاً في تلك السنوات الماضية.