قد يكون ميكلوس روزا هو الموسيقار الأبرز من بين موسيقيي القرن العشرين الذي نجح في أن يجمع بين مؤلفاته السمفونية الأوركسترالية الكلاسيكية، وأعماله الموسيقية الأوركسترالية الخاصة بأفلام السينما، والتي هي الأخرى لم يتركها على حالها بل قام بإعادة توزيعها بشكل سوينتات وكونشيرتات سمفونية كي يضمن استمرارها وخلودها سماعاً في ذاكرة النخبة الموسيقية، وحضوراً في صالات الموسيقى العالمية، في حال فشِلت الأفلام أو اندثرت. بدئاً لا بد لنا من الإشارة الى أحد أروع وأشهر أعمال روزا وهو كونشيرتو Spellbound الذي نال عليه جائزة الأوسكار عام 1945، والذي كان أصلاً الموسيقى التصويرية لأحد أفلام المخرج العالمي هيتشكوك الذي يحمل نفس الاسم وقام ببطولته النجمان الأسطوريان أنغريد بيرغمان وكريكوري بيك. يمتاز هذا الكونشيرتو، وكأغلب أعمال روزا، بأنه نغمي بإمتياز، وبأن بعض إيقاعاته اللحنية مستوحاة من الموسيقى الشعبية الهنغارية، بعد أن تم توزيعها بإطار أوركسترالي رومانتيكي. إيقاع الكونشرتو استهلالي وبصيغة السوناتا من ثلاثة أجزاء مترابطة ومتواصلة. يبدأ جزؤه الأول بإيقاع شاعري انفعالي مندفع مفعم بالطاقة allegro energico وهو صعب وقوي وذو دلالات عميقة ويتمحور حول لحن العمل الرئيسي. أما الجزء الثاني adagio فأهدأ ويعطي بعض الراحة للعازفين والمستمعين على حد سواء من الذروة التي عاشوها في الجزء الأول، وتنساب فيه الأنغام من بين مفاتيح البيانو بلطف وشاعرية ساحرة، مع مرافقة الهوائيات والأوركسترا في بعض الأحيان. أما الجزء الخير Vigoroso فيعود بنا للمزاج الإنفعالي الذي لمسناه في الجزء الأول، ولكن بشكل واندفاع محموم أكثر من سابقه. هنالك أيضاً "سمفونيا كونشرتانتي" وهي أشبه بكونشرتو للكمان والتشيلو، وتعتبر من أبرز مؤلفات روزا الأوركسترالية. الحركة الأولى يتصدى الكمان لعزف لحنها الرئيسي الذي يشاركه به التشيلو أحياناً بمرافقة الأوركسترا، أما الحركة الثانية فطويلة وتحوي جملا لحنية مختلفة لكنها متناسقة، لذا تعزف أحياناً منفردة بفرق صغيرة كتنويعات كمان وتشيلو مع بعض الهوائيات، يبدأ جزؤها الأول بلحن أساسي للتشيلو المنفرد يبدو أنه مستوحى من الموسيقى الهنغارية يشاركه به الكمان أحياناً. الجزء الثاني أكثر حيوية لما فيه من حوار نغمي بين آلتين منفردتين ويمتاز بأنغام انفعالية حادة تمهد للجزء الثالث، الذي يمتاز بلحن راقص ذي إيقاع سريع ينتهي بكل الأوركسترا تمهيداً لدخول الجزء الرابع ذي المساحات اللحنية الواسعة للكمان، يليه حوار عاصف غاضب بالجزء الخامس بين العازفين المنفردين معًا بمواجهة الأوركسترا وتناغماً معها، ثم ما يلبث للعودة الى الهدوء ببداية الجزء السادس، لكنه هدوء يسبق عاصفة من الأنغام تمهد لعودة اللحن الأساسي بالجزء السابع والأخير بكمان منفرد بمشاركة خلفية خفيفة من الهوائيات والتشيلو المنفرد. ولد روزا لعائلة مثقفة، ودرس الكمان في السابعة، ثم واصل دراسته ليحصل على الدبلوم من كونسرفتوار لايبزغ. عزف أول عمل له ببودابست وهو السيرنادا الهنغارية التي أشاد ريتشارد شتراوس بها في حينها. لكن الإنجاز الأكبر له بتلك المرحلة كان عمل بعنوان "مقدمة، تنويعات ونهاية" الذي ألفه بباريس وهو في ال 26 وعزفت لأول مرة بديسبورغ عام 1934 وجعلته موسيقاراً يُشار له بالبنان رغم صغره، وهي عمل من مقدمة وثماني تنويعات وخاتمة. المقدمة عبارة عن لحن شعبي حزين كئيب للأوبو المنفرد، أما التنويعة الأولى فلحن يبدأ بالفلوت ثم الأوبو ثم الكلارنيت تتبعها وتريات يلتقطه منها البوق فتتبعه وتريات تختمها بهدوء، التنويعة الثانية تقودها الهوائيات بمواجهة الوتريات مع مرافقة أنغام أوتار الهارب وتنتهي التنويعة بالوتريات مع مرافقة الهارب، على العكس من سابقاتها تفتتح التنويعة الثالثة بلحن عنيف يعزفه التشيلو مع الكونترباص تهدأ بالوسط مع مرافقة للوتريات لتنتهي كما بدأت بعنف. أما التنويعة الرابعة فتبدأ بلطف مع أنغام منسابة من أوتار الهارب يرافقها صعوداً الكونترباص والتشيلو ثم الوتريات ليعود اللحن لطيفاً هادئاً كما بدأ، بعدها تأتي تنويعة خامسة تتضمن سريعا، ثم السادسة المبنية على لحن شعبي هنغاري موزع على الوتريات مع مرافقة الهارب. التنويعة السابعة تبدأ قوية مندفعة بلحن مارش تعزفه هوائيات بمرافقة آلات إيقاع وكمانات، وأخيراً تأتي تنويعة ثامنة ذات شكل عنيد صارخ بلحن منبعث من الباسون والكونترباص والتشيلو يبدأ بالتصاعد بعنف لتعزفه الأوركسترا ولتسلمه بالنهاية للكمان الذي ينهي العمل بلحن مستوحى من المقدمة. يمتاز العمل بتلونه اللحني، إذ يبدأ بلحن عالي قوي لينتهي بلحن واطيء سوداوي. عام 1943 كان من المحطات المهمة في حياة هذا الموسيقار الأسطورة، فقد قام فيه بعمل موسيقى لباليه عزف في لندن ونال استحسان الموسيقيين والنقاد، وكان من بينهم المخرج جاكوس فيدر الذي قال بأنه قد وجد الموسيقار الذي سيضع موسيقى فيلمه القادم، والذي كان من بطولة أسطورة السينما مارلين ديتريش، وقد نالت الموسيقى التي وضعها روزا لفلم فيدرKnight Without Armour الكثير من التقدير، دعي بعدها لكي يكون ضمن فريق عمل شركة لندن فيلم الإنكليزية لإنتاج الأفلام، والتي مثلت الموسيقى التي وضعها لفلمهاThe Four Feathers أول نجاح عالمي له تلتها موسيقى فيلمThe Thief of Baghdad (لص بغداد). بعد إنتقاله الى هوليوود مع لندن فيلم عام 1944عرضت عليه شركة بارامونت أن يقوم بتأليف موسيقى عملها القادم Double Indemnity. ثم توالت نجاحاته في عالم موسيقى الأفلام لتتوج عام 1946 بنيله لجائزة الأوسكار عن موسيقاه التصويرية الخالدة التي وضعها لفلم هيتشكوك Spellbound والتي تحولت فيما بعد لواحد من أشهر كونشرتات بيانو القرن العشرين. بعدها إنتقل روزا الى فريق عمل MGM التي بقي معها لمدة 12 عاما وضع خلالها موسيقى تصويرية لمجموعة من أشهر أفلامها التأريخية وهيQuo Vadis و Ivanhoeو Julius Caesarو Ben Hur . تعكس أغلب أعمال روزا الموسيقية، سواء الأوركسترالية منها أو التصويرية، تأثره بعنصرين أساسيين يبدوا أنهما قد ساهما في بلورة شخصيته ولغته الموسيقية، الأول هو دراسته الأكاديمية الألمانية الكلاسيكية الصارمة، والثاني هو ولعه بالجمل الطويلة والألحان المتسلسلة، والذي تكون لديه على الأغلب من خلال سماعه للألحان الشعبية الهنغارية وأعمال المدرسة الرومانتيكية خصوصاً المتأخرة منها، والتي كانت في ذروة مجدها خلال فترة نشأته ونضوجه الفني. لذا رغم انشغاله بكم هائل من الالتزامات لموسيقى الأفلام واستهلاكها لوقته وجهده وإبداعه فيها، إلا أنه لم ينس الموسيقى الأوركسترالية التي كانت نوتاتها تنساب من حبر أقلامه بين حين وآخر، وقد استغل فترة قضائه لإجازة صيفية سنوية في سانتا مارغريتا بايطاليا لكتابة مجموعة من أروع أعماله الأوركسترالية الساحرة مثل كونشيرتو الكمان والأوركسترا عام 1956، وكونشيرتو البيانو والأوركسترا عام 1966، وسيمفوني كونشيرتانتي عام 1966، وكونشيرتو التشيلو والأوركسترا عام 1969، وكونشيرتو الفيولا والأوركسترا عام 1979. عام 1982 وأثناء قضائه لعطلته الصيفية المعتادة في سانتا مارغريتا أصيب بأزمة صحية خطيرة أصابته بشلل نصفي وأقعدته عن الحركة، عاد بعدها الى كاليفورنيا وظل حبيس بيته منذ ذلك الحين، لكنه روحه المَرحة المُتقِدة ألهَمَته الشجاعة وبالتالي القدرة على الإستمرار بكتابة بعض الأعمال الخفيفة لآلات منفردة كسوناتا الكمان التي ألفها عام 1986، وعلى الإستمرار في التواصل مع الآخرين وحضور بعض العروض والتسجيلات الموسيقية، ثم بدأت حالته تسوء شيئاُ فشيئاً حتى وافته المنية عام 1995. https://www.youtube.com/watch?v=9L_z2OcL8-U https://www.youtube.com/watch?v=xOkjEpOPe5w https://www.youtube.com/watch?v=t7jTkX2wWXY https://www.youtube.com/watch?v=CCL6VvZCkEA