والمخرج محمد خان صاحب العديد من الأفلام المتميزة التي اثرت السينما العربية في العقود الاربعة الاخيرة، وهو احد أقطاب موجة السينما الجديدة التي ازدهرت أواخر القرن الفائت في فضاء المشهد السينمائي العربي. ولعله من المفاجآت النادرة أن يأتي فيلم (في شقة مصر الجديدة) لخان في خضم الموجة الهاطلة على خريطة السينما المصرية التي اصطلح على تسميتها بأفلام الكوميديانات الشباب الخاوية فكرا وفنا. ليؤكد بلاغته التعبيريه عن ثقافة مخرجه الخاصة ووعيه الاجتماعي وذائقته الجمالية النضرة.. خصوصاً وهو المخرج الذي تمرس في حقبتي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي بتقديم أفلامه العديدة الثرية بلقياتها ومضامينها العميقة التي شغلت النقاد والسينما العربية قاطبة، وتتضح بصمته الخاصة المميزة بلائحة عريضة من أفلامه: (خرج ولم يعد) .. (سوبر ماركت ) .. (مشوار عمر) .. (زوجة رجل مهم) .. (أحلام هند كاميليا) .. الخ قبل أن يختتمها بثلاثية (كليفتي) و (بنات وسط البلد) و (في شقة مصر الجديدة) . وينطلق فيلم خان الجديد من بيئة بسيطة في الريف المصري تتسع فيها دائرة الأحداث لتغطي وتكشف عن صخب شوارع وأمكنة مدينة كبيرة مثل القاهرة من خلال قصة تلك الطالبة في مدرسة إعدادية التي تتلقى فيها دروسا بالموسيقى من معلمة تسرد على مسامع طالباتها معنى الحب والحياة الآتية من وحي وخيال أغنيات ليلى مراد الأمر الذي يدفع بالهيئة التدريسية لمعاقبة المعلمة على سلوكها مع طالباتها بنقلها بعيدا عن البلدة باتجاه العاصمة. وتمضي سنوات لا مجال للتواصل بين المعلمة والطالبة سوى تلك الرسائل المتبادلة ويصدف أن تقوم المدرسة برحلة إلى القاهرة للإطلاع على معالمها وتجد الفتاة الفرصة سانحة أمامها للقاء مدرستها التي علمتها أشياء كثيرة عن الحياة لكنها عندما تذهب إلى العنوان الذي تقيم فيه معلمتها تجدها وقد غادرت الشقة من دون أن تترك عنوانا مما يجعلها تمضي في مهمة البحث عنها على الرغم من إن زميلاتها كن قد اتخذن قرارهن بالعودة إلى البلدة من دونها . وفي القاهرة تبدو الفتاة وحيدة وشبه ضائعة، وكأنها تبحث عن إبرة في كومة من القش، وتتعثر بسائق تاكسي طيب يأخذ على عاتقه أن يأويها في بيت مخصص للنساء تشرف عليه امرأة خبرت الحياة، ومن هذا المكان تبدأ بعملية البحث عن معلمتها السابقة فنجدها تذهب إلى الشقة التي كانت تقطن فيها، وهناك تجد مستأجرا جديدا يعمل في البورصة فترتبط معه بعلاقة بعد خوضها سلسلة من المواقف والمفارقات الطريفة التي اقتضتها رحلة البحث عن معلمتها. يستعيد محمد خان بفيلم (في شقة مصر الجديدة) رشاقته وحيويته المتفجرة كمخرج متمكن قادر على اصطحاب المشاهد إلى أجواء زاخرة من الرومانسية المحملة بالأحاسيس والمشاعر النبيلة وما زالت كاميرته تنبض بحب أولئك المنسيين والمهمشين الذين يجولون في عالم مزدحم بالأمكنة والشخصيات راصدا عذاباتهم ومعاناتهم على خلفية اجتماعية في قالب من الألوان والبهجة في لقطات وتكوينات بصرية تفيض بالكثير من الإيحاءات والدلالات . ويتكيء العمل في فرادته على كم وفير من مفردات الرقة والعذوبة والجمال لسيناريو خصب بحميمية وذاكرة شخوصه في ترنيمة من الألحان الكلاسيكية التي وفرتها أغنيات ليلى مراد في محيط دائرة من الأحداث المتعاقبة تستند إلى خيط درامي بسيط وثري تنجح فيه الكاتبة وسام سليمان بالإمساك في متانة على تلك التفاصيل التي يزخر بها الواقع اليومي المعاش . كما ويحسب لأداء أبطاله المتميزين: خالد أبو النجا وغادة عادل وباقي الممثلين في أدوارهم القصيرة التي تحفر حيزها الخاص وتترك أثرها في ذهن وخيال المشاهد عبر تلك الإيماءات النابضة بالصدق والعاطفة والتواصل الإنساني رغم ما كان يشوبها من مصادفات. فيلم في شقة مصر الجديدة إضافة نوعية أخرى في سينما محمد خان ما كان له أن يظهر إلى النور لولا ذلك الدعم والتمويل الذي كفله قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري والذي يؤكد على ضرورة أن يبتكر صناع السينما المصرية فرصا أخرى للبحث عن مصادر تمويل لأفلامهم بعد أن عجزت شركات الإنتاج السائدة في المشهد السينمائي المصري أن تأخذ دورها الحقيقي في أنجاز تلك السينما المنسية.