صدرت في السنوات الاخيرة عدة كتب حاولت تسليط الضوء على الحياة الاجتماعية في فلسطين الانتدابية، سواء عبر الصور والطوابع او من خلال المذكرات او الدراسات الخاصة عن المدارس او المكتبات والشخصيات الثقافية التي لعبت دورا مهما في الحياة الثقافية والوطنية في تلك الفترة. اضافة الى الدور الاجتماعي والثقافي الذي لعبته الصحافة الفلسطينية في تنوير المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة، ولم تكن هذه القراءة التي لا يخلو بعضها من اهتمام فولكلوري وحس رومانسي حكرا على التواريخ المحلية التي كتبها ابناء المهجر الفلسطيني عن قراهم المدمرة والتي تتشابه في الشكل واحيانا في المضمون مع التركيز على خصوصية المكان واهميته في التاريخ والجغرافيا. ولم تحظ مدينة في التاريخ من دراسات واهتمامات بمثل ما حظيت به مدينة القدس كونها محط افئدة اتباع الديانات الثلاثة. والمهم في قراءة حياة المدينةالفلسطينية انه قراءة لعمليات تحديث لم تكتمل بدأت في نهايات الحكم العثماني واستمرت مع الانتداب البريطاني الذي ادى لولادة طبقة متوسطة خرجت من اسوار المدينة وعمرت بيوتا جميلة وتركتها عندما انهار الحلم الوطني الفلسطيني. وحياة القدس هي حياة العاصمة بكل فيها من سياسي وثقافي واجتماعي وسياسي، والبعد الاخير لا يمكن استبعاده من اي قراءة اذ انه يلقي بظلاله على كل ما تم وانجز في تلك المرحلة الجميلة من تاريخ المدينة، ووضع الكلمة السابقة بين معقوفتين مهم لاننا نتحدث عن تاريخ مدينة كانت ترزح تحت الاحتلال وكان سكان فلسطين يصارعونه ومعه التوسع الصهيوني على ارض فلسطين، فلم تكن الحياة في فلسطين جميلة بل كانت ثورات وكفاحا ونضالا مستمرا، فمنذ بداية العشرينيات من القرن الماضي ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لم تتوقف الثورات ولم يتوقف نزيف الدم الفلسطيني ولم تتوقف خيبات العربي الفلسطيني من السياسات التي مارسها الاستعمار البريطاني وما حدث يعرفه الجميع. لكن الفلسطيني مجبر على النظر الى حياته في وطنه عبر رؤية رومانسية خاصة عندما يرى قريته او مدينته وقد سويت بالتراب، في محاولات من المعتدي لإعادة كتابة تاريخ الارض المقدسة، وهو مجبر على التعبير بصوت عال عن حبه للحياة التي سرقت منه وكانت في بعض صورها لا تزال رعوية- قروية، والقارئ ليوميات خليل السكاكيني عن تلك الفترة يرى هذا الحس. وكذا في مذكرات اخرين ممن اكدوا على الحس الريفي، حيث بدأ ابناء الريف يزحفون بفعل الحداثة الى المدن للتعلم والمشاركة في الحياة الجديدة. واكثر من هذا فالفلسطيني مجبر على النظر لتاريخه حتى في تلك الفترة العصيبة نظرة تقترب الى القداسة خاصة وهو يرى الجرافات الاسرائيلية تعمل الحفر في طبقات التاريخ، باحثة عن قطعة تؤكد احقية الغازي في المكان او تدمر ما بناه الفلسطيني من بنايات جميلة ويبني على ركامها كتلا اسمنتية خالية من الجمالية ولا تتواءم مع طبيعة المكان. حمل الفلسطينيون الى المنفى كل الصور وما استطاعوا حمله من اشياء صغيرة ومن تبقى في الوطن حاولوا العض بالنواجذ على ما لديهم ولكن الاوامر العسكرية اخذت الارض والذاكرة. البنت الشلبية لكل هذا فإن اي كتاب يعيد تركيب تلك الحياة التي مضت، يرحب به لانه يعيد معه تذكيرنا بما فقدناه، ولهذا اختار عارف العارف المؤرخ الفلسطيني المعروف عنوانا فرعيا لكتابه النكبة الفردوس المفقود تذكيرا بالاندلس الفردوس الآخر الذي فقده العرب ولا زالوا يؤمنون يوما ما باستعادته. ووجه آخر للترحيب اننا نعيش اليوم ذكريات النكبة ومرور 63 عاما على ضياع فلسطين، حيث لا يزال الجرح الفلسطيني ينزف. وعليه فكتاب عايدة النجار القدس والبنت الشلبية الصادر في عمان اضافة لهذه الذكريات التي يأبى الفلسطينيون ان تدخل قاع النسيان ويظل يرددها ويذكرنا باصلنا وتاريخنا العظيم. والكتاب لا يطمح الا للاستعادة وتقديم صورة حية عن المكان المقدسي واكنافه عبر تذكر تفاصيله من الاسماء والمحلات والاشياء واللغة والمنتوجات والاحجار والاشجار التي تؤكد لنا ان الفلسطيني لم ينس على الرغم من البعد الزمني الآن للنكبة رائحة الخبز والزعتر الذي كان ابناء المدارس يشترونه وينادي عليه الباعة بلغتهم الخاصة الممطوطة، وصور بائعات الخضار من القرى المحيطة بالقدس المحملات بالسلال وبما تقدمه الارض من خضار وفاكهة . في هذا الكتاب تعيد النجار حكاية القدس من كل جوانبها الاجتماعية وهي وان حاولت التركيز على المرأة البنت الشلبية كما يسميها المقادسة، فهي تبدأ من احجار القدس التي تقول انها تحمل اسماء كما هي احجار المدن الفلسطينية خاصة ان طبيعة فلسطين الجبلية تمنح البنائين الفرصة لاختيار نوع الحجر الذي يريدونه وهو انواع الطبز اي البارز والملطش الخشن، والمسمسم والاملس. ونظرا للازدهار المعماري في تلك الفترة كثر المهندسون المعماريون واصبح تخصص الهندسة من التخصصات التي يحرص عليها سكان القدس، وكثرت محاجر او المقالع و دقيقة الحجارة، وتذكر الكاتبة عددا من مشاهيرهم خاصة ممن تخصصوا في زخرفة واجهات البيوت التي صارت تحمل آيات قرآنية وعبارات اخرى لمنع العين الحاسدة. ويشير الكتاب الى تطور اشكال الزينة مع تطور صناعات مثل الخزف والفخار. وردة فدوى طوقان وزين الفلسطينيون بيوتهم باحواش من الزهور من كافة الانواع من الليلك وام سبع سنين وزهرة الساعة وما الى ذلك حيث كانت نساء القدس يزرعن الازهار اما في اصص او تنكات. وتذكر الكاتبة ان زهرة قدمها معجب لفدوى طوقان في بداية حياتها المدرسية قضت على مستقبلها التعليمي، وستجد طوقان لاحقا في مدينة القدس وانفتاحها مراحا لها من جو نابلس القاتم والمحافظ. كانت القدس مدينة متعددة الثقافات والديانات والاعراق وهذا يعود الى مركزية المدينة الدينية. وتذكر الكاتبة باسماء حارات القدس وعائلاتها المعروفة، وشكل البيت المقدسي الذي كانت تسكنه العائلة الممتدة، وكذا تذكر بشكل المفاتيح والاقفال التي كان الناس في ذلك الزمان يغلقون فيها بيوتهم الزرفيل والمفتاح المزلاج الذي اصبح عنوانا لحق العودة الفلسطيني. وفي كل حديث عن ملمح من ملامح الحياة تلك تذكرنا باسماء المهرة والصناع الذين تخصصوا في الحرف المتعلقة ببناء البيوت او تحصينها وتزيينها والمواد. وتذكر التحولات التي طرأت على البيت المقدسي من ناحية المرافق العامة حيث دخلت الحمامات الافرنجية بيوتهم والبانيو والتي كان يتنافس على بيعه عدد من اصحاب المحلات خارج سور المدينة العتيق. كل هذه التحولات مع ان المدينة العربية كانت معروفة بحماماتها الشرقية والتي كانت تخدم النساء والرجال، وتذكرالكاتبة بطقوس الحمام، التي كانت تمارسها النساء من حمل البقجة المزخرفة والليفة والصابون النابلسي والقبقاب الدمشقي. كان يوم الحمام من الايام السعيدة لدى نساء المدينة حيث يتم الاستعداد بالاطعمة والاشربة والاغاني. وسيختفي الحمام كما اختفت الكثير من المعالم التراثية بفعل النكبة او التطورات التكنولوجية في العالم. يقدم الكتاب صورة عن مدينة مليئة بالحياة والنشاط، اسواق وباعة وروائح البهارات والطبخات التقليدية والخبز الساخن والمخابز، والسياح الاجانب ومترجميهم العرب ممن يقفون ويشترون كعكة السمسم لمواصلة الرحلة في المدينة المقدسة. قصور ومكتبات قصة القدس هي قصة النخبة الغنية والمتعلمة وقصة قصورها مثل قصر الشيخ محمد الخليلي الذي تحول الى مدرسة الرشيدية وقصر الخطيب في وادي الجوز وقصر اسعاف النشاشيبي وقصر كرم المفتي الذي لعب دورا في الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية خاصة ان زوجة جورج انطونيوس، كيتي سكنت فيه وكان مركزا للقاء المثقفين والساسة في تلك الفترة، ومثل بقية المعالم الفلسطينية في القدس لم يسلم قصر المفتي من معول الجرافة الاسرائيلية حيث دمر في شهر كانون الثاني (يناير) من العام الحالي. ومثل قصرالمفتي يتعرض قصر اديب العربية محمد اسعاف النشاشيبي لخطر الهدم وهو من اهم القصور والمباني في تلك الفترة خاصة ان صاحبه حوله الى مركز لاجتماع المثقفين والكتاب وزاره اعلام الادب العربي في تلك الفترة وتغنى به الرصافي الشاعر المعروف. وما دام الحديث هنا عن الادباء فهذا يقود للحديث عن مكتبات العائلات المقدسية وعلمائها من مثل مكتبة الشيخ محمد الخليلي وعبداللطيف الحسيني، ومكتبة الكلية العربية والاذاعة الفلسطينية ومكتبة اسحق الحسيني وجار الله، وعجاج نويهض، وظل خليل السكاكيني يشعر بالحزن والغضب على مكتبته في القطمون التي نهبها الصهاينة مثل مكتبات اخرى حتى مات بعد ثلاثة اعوام النكبة. يسجل الكتاب هنا ملامح التغير في ثقافة القرية وكيف عرفت الحداثة من المدينة، ويذكر ان نساء كن يتباهين بانهن انجبن على تخوت او اسرّة حديدية في غرف مفروشة باثاث مستورد من اوروبا. وفي هذا السياق ذكرني هذا الحديث بما اورده صاحبا كتابة ولاية بيروت، حيث لاحظا عدم التجانس في بيوت النابلسيين بين الفرش الحديث والقديم. وعلى العموم كانت الحياة في بيوت القرية بسيطة. صور الشهداء على الجدران وتذكر الكاتبة بطريقة تزيين البيوت وجدرانها حيث كانت تحمل صورة العائلة وبعض الزعماء السياسيين من مثل الحاج امين الحسيني. فيما عرضت المقاهي صور الشهداء الثلاثة والشيخ القسام. وحرص بعض الأهالي على تزيين بيوتهم برسومات تراثية مطبوعة على القماش من مثل قصة عنتر وعبلة والتي كانت تحمل عبارات تصف عبلة هكذا النساء منذ عقود واخرى تصف عنتر فخر الرجال بلا سلاسل او قيود. الحديث عن القدس وذاكرتها لا يتم بدون الحديث عن مدارسها وكلياتها ومعاهدها الخاصة او الحكومية، الرشيدية والكلية العربية ومعهد الحقوق، ومدرسة المأمونية للبنات وتفصل في هذه حيث تذكر الاناشيد وذكرياتها فيها. ومن الملامح التي تذكر فيها وهي دور المرأة وتطور صورتها بفعل التعليم والدراسة والمشاركة في الحياة العامة. سفور وحجاب وهي وان قدمت جزءا من الحوار الذي دار على صفحات الجرائد الفلسطينية حول السفور والحجاب وشارك فيه متنورون مقابل معارضة من رجال الدين المسلمين والمسيحيين، الا ان هذا الجدل كان انعكاسا لما حدث من تغير في عادات اللباس لدى المرأة الفلسطينية- مسيحية ومسلمة، فقد تخلى البعض منهن عن الملاية والبرنص والحجاب. ولبست البنات والنساء الملابس القصيرة، واستبدل غطاء الوجه بايشارب خفيف وفي بعض الاحيان لبسن البرنيطة كما تظهر الصور الفوتوغرافية عن تلك المرحلة. واثرت التحولات في طرق اللباس عند المرأة الفلسطينية الى توفر الملابس الجاهزة بدلا من الذهاب للخياطة. لكن التحول في لباس بنت المدينة لم يؤد الى تحولات في لباس المرأة القروية لتي حافظت على تقاليد الثوب الفلسطيني المطرز وستنتظر هذه عقودا اخرى حتى تبدأ بتقليد بنت المدينة وذلك بفعل السفر والتعليم. ويمكن النظر الى ان التحولات من ناحية السفور والحجاب والتفرنج وركوب البسكليت والتبرنط لم تكن الا طابع نساء النخبة ممن كن يلتقين على حفلات الشاي وشمات الهوا ويشاركن بقدر قليل من العمل العام ويخرجن للتظاهر. وتذكرنا ما دام الحديث عن المرأة بزيارة كلثوم عودة الباحثة الفلسطينية التي كانت تعيش في روسيا وزيارة مي زيادة وانطلاقة فدوى طوقان من القدس، ومع هاته المبدعات نقرأ سير مبدعات فلسطينيات من مثل نجوى قعوار واسمى طوبي وسميرة عزام واخريات. كانت القدس في فترة الانتداب عاصمة فلسطين وعاصمة الثقافة ومحط رحال الفنانين والمسرحيين ورجال الادب، ومقهى الصعاليك، ومركز الفعل السياسي وخلافات وتفرقات الساسة وتنازعهم على السلطة. صور المدينة ومع ان الكاتبة تصور علاقة المدينة بالقرية بالتكاملية والحميمية فان الامر يظل نسبيا، وعلينا ان نتذكر موقف الطبقة السياسية في حينها من استشهاده وجنازته والعودة الى يوميات اكرم زعيتر توضح هذا الواقع. كتاب النجار كاتالوج من الصور والاعلانات ودليل يالو بوك للمحلات والاماكن والتجار والاسماء التي عاشت في القدس وشكلت ذاكرتها الجميلة، فالصور الشخصية والعامة لرجال واعلام الثقافة والادب من ابناء تلك المرحلة واعلامها وقصورها وازيائها تعيد لنا زمنا جميلا اضعناه. عزاؤنا الوحيد اننا لا زلنا نقرأ سيرة القدس ونتتلمذ على ابداعات ذلك الزمن الجميل ولا زالت الصخرة تذكرنا بشموخ الذاكرة وقدرتها على البقاء والتعالي على صوت الجرافة لان القدس هي رمز السماء والمعراج. --------- - القدس والبنت الشلبية - عايدة النجار - السلوى للدراسات والنشر - عمان 2011.