مع المشاهد الأولى لفيلم “أندرون” للمخرج الإيطالي الأصل فرانسيسكو سنكويماني سنكون مع التيه الكامل، بضع شخصيات لا يعرف بعضها بعضا ستجد نفسها في مكان لا تعرفه وزمان مجهول أيضا، وعليها أن تربط حقيقة الأشياء مع بعضها البعض لكي تتخلص من المأزق، لتبدأ سلسلة من الأحداث في وسط المتاهة الكاملة التي صنعها المخرج. ليست هناك سوى نداءات وأصوات مجهولة وكأن هؤلاء الأشخاص الذين تم زجهم في هذا المأزق ينتمون إلى زمن آخر، بضعة شباب وفتيات سوف يتأكدون في ما بعد من أن هناك قوة خفية توجه كل شيء، وأنهم خاضعون لا إراديا لتجربة ما. ولهذا سيدخلون ما يشبه المغارات الغرائبية وفي كل مرة سيكتشفون حقائق جديدة والسّلم الهش الذي يتمتعون به سرعان ما سيتحول إلى صراعات وموت مع كائنات شبه روبوتية مقاتلة يجري زجها تباعا في تلك المتاهة المجهولة بهدف التخلص من كائنات التجربة الواحد تلو الآخر، أين يكون البقاء للأقوى الذي سيتمكن من حماية نفسه بشكل ما، كل ذلك في إطار معالجة متقنة للمخرج تعيد إلى الأذهان أفلام المتاهات، ومنها “لعبة الجوع” و”اللعبة الأكثر خطرا” و”متسابق المتاهة” وغيرها. نحن الآن في العام 2154، حيث تم تدمير العالم في صراعات لا تعرف أسبابها، لكن كل شيء تحطم والمجهول يلف وجود أي كائنات أخرى سوى هؤلاء المحتجزين الذين لا يعلمون حتى أسماءهم وتم محو ذاكرتهم، وعندما يستعيدون شيئا منها سوف يتأكدون أنهم يعيشون في عالم يمتد زمنيا إلى ربع قرن بعد الفناء العظيم. في تجربة “أندرون” هذه هناك زعيمان يقودان الصراعات ويراقبان ما يجري هما آدم (الممثل أليس بالدوين) والمستشار غوردن (الممثل داني كلوفر)، حيث يبدو فضاء ديستوبي مطلقا يجري من خلاله الانتقال بحلقات الصراع تباعا، وهو صراع يتعلق بالوجود الإنساني وجدواه وكيف تحولت تلك الكائنات البشرية مع مرور الزمن إلى عيّنات تجارب لا أكثر، حيث فقدت الإحساس بجدوى وجودها، ومن خلال ذلك يتم التعرف على كائنات أخرى تم تهجينها. وما بين الصنفين من الكائنات تلك التي تغرق في المتاهة وفي مقابلها الكائنات المهجّنة سنتابع صراعا وقطع أنفاس في تتبع لتلك التحولات والمفاجآت. الفضاء الديستوبي يقدم تنوعا مكانيا يمضي متوازيا مع فكرة الاكتشاف المسيطرة على الأحداث، إذ تتنقل وحدات الصراع تباعا، فيما سيصل قائدا الرحلة إلى نقطة الخلاف واللاعودة. القبو الأرضي متشابك المداخل والمخارج والمستويات صعودا وهبوطا، هو الأرض التي ستشهد كل تلك الصراعات والتجارب، كائنات مدموغة بدمغة ما تميزها ولهذا صار إحساسها بالمكان لا يتعدى تخلصها من الخصوم، ومع كل ثيمة وتصعيد في السرد الفيلمي سوف تتكشف عناصر مكانية أخرى تمنحنا المزيد من متعة المتابعة. هي حكومة يقودها شخصان إذا، والمجهول شاسع وسيطرتهما على أثير الفضاء توفر لهما قدرة في السيطرة على الآخرين، وقد امتلكا ناصية التقنيات الاتصالية الحديثة، والكائنات بالنسبة إليهم قد تحولت إلى مجرد شيفرات من خلالها يتم النفاذ إلى دواخلها والسيطرة عليها، وهنا سيمتزج اللعب بالدراما. فالعمليات التي تجري كلها تقع في إطار لعبة التخلص من المأزق أو تحرير الذات، وهي متعة يجري فيها اجتياز العقبات تباعا من قبل الشخصيات، ومع كل مرحلة سيفقد واحد من المغامرين العشرة حياته، وكلهم شباب يافعون تتولد في داخلهم نزعة الصراع من أجل البقاء والحفاظ على الذات بأي شكل من الأشكال. وفي السرد الفيلمي والانتقالات الدرامية تحسب للمخرج مهارة ملفتة في صنع فيلم من الممكن أن يندرج في خانة الأفلام قليلة التكلفة، فالمتطلبات الإنتاجية ليست كثيرة والاعتماد على مشاهد الحركة كان هو العلامة الفارقة، إذ كان يجري تتبع ما ستؤول إليه الشخصيات في كل مرحلة ومن سيبقى مستمرا في المسار الذي يجري تعقبه من قبل القائدين، وعلى هذا لم تكن لهما وظيفة استثنائية، فالمشاهد التي كانا يظهران فيها مختصرة، فيما كان الأهم هو تتبع ما سيؤول إليه حال الكائنات المحتجزة التي تبحث عن خلاصها. ومن جهة أخرى أغفل الفيلم سرديا ودراميا الحقائق المتعلقة بالفناء الأرضي، وكيف ولماذا وقعت تلك الجائحة؟ وأين هي قوى الصراع التي أفضت إلى لفظ الكائنات وإلقائها في تلك المساحة؟ وهي شبه ممحوة الذاكرة، وكأن الوباء من مفاعيله التخلص من الإدراك الذي تستند إليه الشخصيات وهي تجوس في مكان مجهول.