زها حديد العراقية ابنة السياسي العراقي محمد حديد ولدت 1955 وأصبحت من مهندسي العصر. إذ مشت في التيار ما بعد الحداثي تأثرت بنظريات الفنان الروسي مالفيتش والبنائين الروس لكنها انتقلت من التفكيكية إلى الانسيابية متأثرة بالثورة الرقمية. وفيما يُعدّها البعض من عظماء المعماريين يعتبرها البعض الآخر رائدة فن معولم لا يبالي إلا بالغريب ولا يعطي بالاً للتراث والتاريخ والبيئة من أعمالها مبنى الأسواق في بيروت، جسر الشيخ زايد، متحف الفن المعاصر في سنسناتي، قاعة الحديقة الألمانية ومركز الفنون الحديثة في روما ومحطة قطارات ستراسبورغ. في ما يلي ثلاث دراسات لثلاثة أكاديميين في فن العمارة. لم يكن أحد يتوقع غياب زها حديد بهذا الشكل والتوقيت المفاجئ. غابت المعمارية الكبرى من دون سابق إنذار، في وقت أصبحت مشاريعها تملأ البلدان في الشرق والغرب، مثيرة الاعجاب في اكثر الاحيان، كما الاستهجان في احيان اخرى. بعد هدوء «سكرة الموت» أصبح بالامكان ان نبدأ بمراجعة لأعمال هذه المعمارية الفذة، من دون عاطفية جياشة أو حكم مسبق. فدور الناقد يجب ان يرتفع فوق صخب اللحظة كما فوق العواطف الخاصة او الذكريات الحميمة ليتناول النتاج الفعلي للفنان او المعمار او الكاتب، وما يمثله العمل الفني ليس فقط على المستوى الجمالي البحت وانما ايضا على افرازاته الفكرية والسياسية والاجتماعية. لقد كنت من اكثر المتحمسين لأعمال فرانك غيري وزها حديد وريم كولهاس في بداية مشواري التعليمي في الجامعة، وكنت في تلك الفترة، اي بداية التسعينيات، من التواقين الى كسر الجمود المعماري والانزلاق «الرجعي» نحو اعادة استنساخ التاريخ من دون اي عملية نقدية والذي، على أيدي بعض المعمارين، حوّل التاريخ والتراث الى مادة مبتذلة فاقدة لأدنى المعايير الكلاسيكية. لذلك كنت في البدايات من المرحبين بعودة الحديث عن «يوطوبيا» الحداثة الاولى، التي برزت في أعمال كولهاس وحديد وغيرهما. وكانت حديد من اولئك الذين اختاروا العودة الى اعمال «البنائين» الروس Constructivists كما الى اعمال الفنان كازيمير ماليفيتشي صاحب النظريات التجريدية. وكان مشروع زها حديد الاول على نطاق عالمي، مشروع مجمع سياحي على هضبة هونغ كونغ، ترجمة فعلية لهذه النظريات «البنائية»، محولة المبنى الى مجموعة من المسطحات الطائرة، مركبة بطريقة تتحدى فيها الجاذبية الارضية. لم يكتب لهذا المشروع (1982)، الذي فازت فيه حديد بالجائزة الاولى في مباراة عالمية، ان يتحقق، لكنه أوصل المعمارية الشابة الى النجومية فبدأت رسوماتها تحتل غلافات المجلات وتعرض في معارض العمارة. أعطت المانيا هذه الشابة الصاعدة فرصتها الاولى لاختراق عالم الواقع فكان ان أنجزت اول مشاريعها في برلين (مجمع سكني، 1993) وثانيها في بلدة وايل ام راين (مركز الدفاع المدني، 1994). في مشروع مركز الدفاع المدني، ترجمت حديد للمرة الاولى الافكار «البنائية» فصاغت المبنى من مسطحات افقية وجدران ملتوية تظهر وكأنها في مبارزة، ينتج منها الفضاء الداخلي. لكن المبنى في النتيجة، لم يطف فوق الارض ولم يظهر وكأنه بخفة الطائرة بل كان مرتكزا بصلابة جدرانه الخرسانية في الارض. لكن هذا العمل شكل بداية نجومية زها حديد في عالم الواقع، فكرّت المشاريع الواحد تلو الآخر، من متحف الفن المعاصر في سنسناتي (2003) الى مركز BMW الصناعي في لايبزغ (2005) الى مجمع فانو العلمي في ولسبرغ (2005)، فمتحف ماكسي في روما (2010) ومبنى الاوبرا في غانغزو (2010) والمركز الثقافي في باكو (2012). الزمن الثاني لحديد يمكن لأي متابع لأعمال حديد ان يرى بوضوح تغيرا ملموسا بعد متحف سنسناتي. انتهت مرحلة زها حديد الاولى، لتبدأ مرحلة ثانية، تحولت فيها لغتها المعمارية من الاقسام والمقاطع والخطوط المتواجهة، الى لغة اكثر انسيابية، اختفت بالكامل مواجهات «البنائين» الروس لتحل مكانها «احتفالية مشهدية» تغلب الطابع الجمالي على النقد الفكري للواقع. هذا التحول في مسيرة زها حديد المعمارية أتى مع تطور تقنيات الرسم من وسائل يدوية، تلعب فيها اليد دورا خاصا، الى وسائل تكنولوجية تحتل فيها التقنيات الرقمية الموقع الاساس. كذلك أتى هذا التحول مع دخول لاعب بارز الى فريق زها حديد، وهو المعماري الالماني باتريك شومخر، احد ابرز المنظرين والمروجين للثورة الرقمية في المعمارة Parametricism. هنا انتهى زمن زها حديد الاول ليبدأ الزمن الثاني، المفعم بالأشكال الانسيابية الحسية، التي لم تكن لتجد طريق ترجمتها الى الواقع لولا تطور تقنيات الرسم والبناء في عصرنا. مع هذه الاشكال الجديدة الطامحة الى مرتبة «الجلالة» الجمالية (Sublime) غابت عن المشهد آثار اليد الحديدية الاولى التي كانت بالرغم من مواجهتها المزعومة للواقع، أكثر التزاما بحدود المكان والمحيط التاريخي للاشياء، ليحل مكانها طغيان الأشكال البراقة التي تتحدى «المقياس» الانساني فيصعب ربطها بمحيطها، كما نرى على سبيل المثال في مبنى عصام فارس في حرم الجامعة اللبنانية الاميركية في بيروت، أو كما سنرى بشكل اوضح في مبنى الاسواق المنتظر في موقع خان انطون بك التاريخي وعلى مقربة من مسجد المجيدية. هنا تجدر الاشارة الى ان حديد كانت قد شاركت في مسابقة تصميم الاسواق التجارية (1994) وكان تصميمها في ذلك الوقت تشكيلة من الخطوط المقطعة التي تنسج في ما بينها الأسواق التجارية. بالطبع، مع نجاح زها حديد العالمي، كان لا بد من ارتفاع الاصوات المؤيدة لنهجها المعماري، كما الاصوات المنتقدة لهذا المسار الذي يرى فيه بعض النقاد، استسلاما لنظام السوق الاقتصادي الليبرالي، وفقدانا للاتجاهات «النقدية» الاولى. كما يرى بعض النقاد في اعمال زها حديد الاخيرة تجاهلا لخصوصيات الامكنة والمدن المختلفة، بحيث تتحول العمارة الى نظرة شخصية (style) والى علامة تجارية (signature). ربما قد يعطي الزمن زها حديد حقها، فبعد بضعة عقود قد يتحول مبنى عصام فارس الى جزء من تركيبة محيطه، وقد تتقبل الاجيال القادمة اكثر فكرة المجمع التجاري الذي حل مكان خان انطون بك، لكن أعمالها تبقى في اللحظة الراهنة اعمالا تتحدى الواقع. تيار عالمي معولم من هنا يمكننا ان ننطلق في عملية إعادة تقييم لأعمال زها حديد، كما لهذا التيار الجديد الذي كانت هي من أبرز مروّجيه والذي تحول الى تيار عالمي ومعولم، مستوطنا العالم بأعمال يشبه بعضها بعضا، من شانغهاي الى باكو وابو ظبي ونيويورك. طبعا يندرج ضمن هذا التيار معماريون كبار من امثال فرانك غيري وريم كولهاس وهيرزوغ ودي ميرون وغيرهم. كما يقول الناقد هال فوستر، فإن بعض هذه الاعمال التي تتسم بالاعتباطية ترتبط باقتصاد عالمي تسويقي، يروج لها كأدوات للحرية والديموقراطية. لكن هذه الحرية بالفعل تقتصر على حرية الفنان او المعمار في استنباط أشكال جديدة ومثيرة، فلا تتخطى هذه حدوداً تصل الى امكانية تغيير الواقع، وقد وصلت الى ترجمتها الفعلية على ارض الواقع من خلال حرية اخرى، هي حرية تنقل رؤوس الاموال في اقتصاد معولم، غالبا ما يترك آثارا سلبية على الفئات الاجتماعية التي لا يشركها هذا «التطور التكنولوجي» في لعبته. هنا قد يهب المدافعون عن هذا التيار التجديدي، كما فعلت حديد عدة مرات، بأن مسؤولية المعمار تقف عند حدود مهنيته واطار «خدماته» المهنية. لكن المعماريين الاول، وخاصة البنائين الروس، الذين شكلوا مصدر الالهام الاساسي في مسيرة حديد، كانوا ايضا أصحاب مشروع حداثي فعلي يرتبط ارتباطا وثيقا بمشروع تحديث المجتمع وتطويره، وتلعب فيه العمارة دورا رياديا للوصول الى مجتمع اكثر عدالة وتوازنا وديموقراطية. هنا نسترجع أحد أقوال كارل ماركس الشهيرة: ان التاريخ يعيد نفسه، في المرة الاولى كتراجيديا، وفي المرة الثانية كخدعة. ربما نكون الآن نعيش زمن الخدعة حيث تشكل عملية إعادة استنباط الاشكال الثورية أو «التقدمية» مجرد قناع لمشاريع تغيب عنها المثاليات الاجتماعية. ليست هذه مسؤولية المعمار بالطبع بل هي حالة انعكاس لنظام اقتصادي عالمي بات يطغى على العالم.