تتأكّد بأنّك قرأتَ كتاباً جيّداً للتوّ حين يساورك شعورٌ كأنّك تودّع صديقاً عزيزاً بينما تطوي صفحته الأخيرة، الكتب الجيّدة تأتي بالنور إلى حياتنا وتجعل العالم يبدو أكثر ألفة، هذا ما شعرت به وأنا أقرأ رواية الكاتبة التركية إليف شفق «قواعد العشق الأربعون»، كانت لهفتي تزداد كلّما فرغت من صفحةٍ وذهبت نحو أخرى، بل إنّ شعوراً غريباً بدأ يلازمني وأنا في منتصف الكتاب، إذْ رُحتُ أتمنى أن تتضاعف الأوراق التي تنتظر القراءة كلما اقتربت من تجاوز منتصف الرواية، حتى أنني بعد أن فرغت من النسخة العربية، عدتُ لاستطلاع النسخة الإنكليزية التي جاءت في 229 صفحة في محاولةٍ لتمديد المتعة التي لازمتني في قراءة هذا العمل. جاءت النسخة العربية للرواية في 502 صفحة وقد نقلها إلى العربية المترجم خالد الجبيلي، وإليف شفق لمن لا يعرفها روائية فرنسية المولد وتركية الأصل، ولدت في فرنسا عام 1971، وتُعتبر اليوم من أبرز الأصوات الروائية النسوية في تركيا، تُرجِمت أعمالها إلى ما يزيد عن ثلاثين لغة، أصدرت شفق11 كتاباً، منها ثماني روايات، وقد جاءت روايتها هذه ضمن أفضل أعمالها من حيث المبيعات التي حقّقتها والاهتمام الذي حظيت به عالميّاً. تُعالج الرواية بلغة شديدة العفوية والسلاسة أسئلة فلسفية المحتوى، وبحبكة روائية تكشف عن خبرة عالية في استحضار ما هو تاريخي ومستقرّ واستنطاقه عبر مواقف شخصيّاتها المتعددة وشخصيتها المركزية «شمس الدين التبريزي» الذي تفتَتح الكاتبة عملها بلسانه قائلاً «عندمنا كنتُ طفلاً، رأيتُ الله، رأيت ملائكة؛ رأيت أسرارا العالمَين العلوي والسّفلي. ظننت أنّ جميع الرجال رأوا ما رأيته. لكنّي سرعان ما أدركت أنّهم لم يروا…. من ناحية الشكل والبناء جاءت الرواية في خمس فصولٍ رئيسية اختارت لها المؤلفة أسماء العناصر الطبيعية وهي التالية: الأرض: الأشياء التي تكون صلبة متشربة وساكنة، الماء: الأشياء السائلة تتغير ولا يمكن التّنبّؤ بها، الريح: الأشياء التي تتحرك تتطور وتتحدى، وأخيراً النار: الأشياء التي تدمّر وتتحطّم، فيما كان العدم آخر فصولها، العدم: الأشياء الموجودة من خلال غيابها. وفي الحقيقة فإننا نجد أنفسنا أمام روايتين، خطّان سرديّان يتوازيان إلاّ أنّهما يلتقيان بمشيئةٍ روائيةٍ بارعة، الرواية الأولى المفتَرَضة هي رواية معاصرة محورها ربّة المنزل اليهودية والزوجة التّعسة «إيلا روبنشتاين» التي تقطُنُ مع عائلتها الصغيرة في نورثامبتون بولاية ماساتشوستس الأمريكية، تعمل إيلا لحساب وكالةٍ أدبيّة كلّفتها بمراجعةٍ أدبية لكتابٍ بعنوان «الكفر الحلو» لكاتب اسمه «عزيز زاهارا». أمّا الرواية الثانية في النّص، فهي رواية تمضي بنا إلى القرن الثالث عشر الميلادي، بطلها المتصوّف والدرويش الذائع الصيت شمس الدين التبريزي وهو يتنقّل من مكانٍ لآخر مقلّباً أسئلةً إشكاليةً حول فكرة الإيمان وجوهرها في رحلة البحث عن رفيقه الروحيّ إثْرَ رؤيا أتتهُ في منامه نبّأتهُ بموته الوشيك، فانطلق يبحث عن رفيقه الذي سنكتشف بمرور الوقت أنّه ليس سوى مولانا شمس الدين الرومي، شاعر الصوفيّة والروحانية المعروف. بينما تستغرق إيلا روبنشتاين في قراءة رواية «الكفر الحلو» آخذةً بالاقتراب من عالم مؤلّفها عزيز زاهارا واستعادة التوق إلى حياتها المملّة والفاقدة للمعنى، لتكتشف مع مرور الوقت أنها باتت مستعدّة للتخلّي عن حياتها الراهنة بما فيها، لتَمضي خلفَ عشقها الجديد، تواكب الرواية الأخرى رحلة الدرويش شمس التبريزي في البحث عن رفيقه الرومي الذي يقطن قونيه، تلك الرحلة التي تنطلق إثرَ رؤيةٍ أدرك شمس خلالها أنّه ميّت وعليه أن يصلَ رفيقه قبل منيّته، يتجوّل الدرويش في عوالم ومدن من سمرقند إلى بغداد ودمشق وصولاً إلى قونيه في رحلةٍ بديعةٍ تستنطق من خلالها إليف شفق شخصياتٍ عهدناها خارج دائرة الإيمان والروحانيات كالبغيّ والسكّير والمتسوّل، في أسئلة مشاكسة يطلقها الدرويش التبريزيّ حول جوهر الإيمان وعقيدة المحبة، ساخراً من سرديّة السلطات الدينية التي تقيمُ حدوداً بين الله والإنسان وتُثقِلُ ما هو روحيّ بسُلطوية متجهّمة. في قاعدته الثانية والثلاثين يقول التبريزيّ: « يجب أن لا يحول شيء بين نفسك وبين الله، لا أئمة ولا قساوسة ولا أحبار، ولا أي وصيّ آخر على الزعامة الأخلاقية أو الدينية، ولا السادة الروحيون، ولا حتى إيمانك. آمن بقيمك ومبادئك، لكن لا تفرضها على الآخرين، وإذا كنت تحطّم قلوب الآخرين، فمهما كانت العقيدة الدينية التي تعتنقها، فهي ليست عقيدةً جيّدة». ألا يقول الله تعالى «ونحنُ أقربُ إليه من حبل الوريد» فالله لا يقبع في السموات العالية بل يقبع في داخل كلّ منّا. في رحلته التي تكتمل بقواعد عشقه الأربعين وبموته طبعاً، كأنما يعيد التبريزي اكتشاف الطريق إلى الإيمان في هيئته الأنقى ووجهه الأبسط، وبصحبة الروميّ اكتملت سيرة المحبّة التي انتهجها طريقاً إلى إيمانٍ تجلّى في الإنسجام الذي طَبَع الرّقصَة التي وضعاها معاً «رقصة الدراويش» التي جسّدت تناغمَ الكائن البشري مع الإيقاع الإلهيّ الذي يتردّد في نبضِ الكون. تقود الرواية بنباهة إلى استخلاصات روحيّة ووجدانية مكثّفة، لكأنَّ شفق حاولت أن تلفت الانتباه إلى تشابه الواقع الذي سادَ في القرن الثالث عشر مع واقعنا اليوم، فقد حَكمت العالم آنذاك صراعات ثقافية المنشأ، فاشتعل حروباً بدوافع عِرقية وقوميّة ودينيّة، كما رزح الدين تحت وطأة السلطات الثيوقراطية والتفسيرات الأحادية المأزومة التي أخذته بعيداً عن دوره في خلق عالمٍ منسجمٍ ومطمئن، فقواعدها-رسائلها الأربعون لكأنّما تقترِح حلّاً روحانياً لأزماتِ العالم المتصاعدة التي تضع البشرية على حافّة انهياراتٍ رهيبة، إنّها دعوةٌ لإنقاذ الإيمان من المؤمنين، ولإنقاذ المؤمنين من أنفسهم، ومن الجهل الذي يقود إلى التطرّف ويجعل من فكرة الإيمان وطاقتها عبئاً على البشرية وعائقاُ أمام انسجام الكائن مع وجوده في وحدةٍ خَبِرَها الصوفيّون والدراويش جيّداً. ....ز كاتب سوري