"إن السعي وراء الحب يغيّرنا. فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته. فما أن تبدأ رحلة البحث عن الحب، حتى تبدأ تتغير من الداخل ومن الخارج" بتلك الكلمات الصوفية العاشقة أسرتني رواية "قواعد العشق الأربعون" للكاتبة التركية إليف شافاق ومنذ الوهلة الاولى ادركت أنني على موعد مع رحلة روحية بعيدة عن عالم هتكت أوصاله الماديات فأصبح باردا بلا روح أو ملامح . تدور رواية "قواعد العشق" حول قصتي حب الأولى في القرن الثالث عشر والثانية بالقرن الواحد والعشرين، الأولى تروي قصة التقاء القطبين الدرويش الصوفي "شمس التبريزي" بالعالم الجليل "جلال الدين الرومي" وتوحدهما في طريق العشق الإلهي والقصة الثانية تسرد حب إمرأة يهودية لرجل صوفي ..الفارق الزمني بين القصتين بضعة قرون إلا أنهما يتقاطعان بشكل عاصف لتؤثر الأولى على الثانية فنجد " إيلا " تلك السيدة اليهودية الأمريكية التي تحيا في روتين ورتابة حياة مملة مع أولادها وزوجها طبيب الأسنان وقد شارفت هذه السيدة على بلوغ الأربعين عاما راضية بحياتها الباردة الخالية من الحب فتقوقعت حول ذاتها محاولة الحفاظ على اسرتها حتى وهى تعلم بخيانة زوجها لها مع أخريات وفي الوقت الذي تظن فيه "إيلا" ان كل شيء يسير وفق ايقاع منسجم ينقلب كل شيء رأسا على عقب وذلك عندما استطاعت بمساعدة زوجها الحصول على عمل بوكالة أدبية في بوسطن، لتكتب رأيها في رواية تسمى " الكفر الحلو" لكاتب مغمور يدعى عزيز زاهارا فتتعلق بالكاتب وبطل روايته شمس التبريزي وقواعده الأربعون للعشق لتعيد النظر مرة اخرى في حياتها الشخصية وعلاقتها بأسرتها وزوجها فتحولت حياتها من الركود إلى فوران المشاعر وتأججها. في هذا الخضم المتلاحق من الأحداث تسرد الرواية قصة التقاء الدرويش الصوفي شمس التبريزي و العالم الجليل مولانا جلال الدين الرومي، ليربط سياق الاحداث بين تأثير كل من زاهارا على حياة إيلا وتأثير التبريزي على الرومي فكلاهما متأخر في حياة الرومي وإيلا لكنهما كمن ألقى حجرا في بحيرة فعكر الحجر صفو المياة الراكده فماعادت البحيرة ذاتها مرة اخرى ...وهنا استطاعت الكاتبة إليف شافاق أن تمزج بين القصتين عبر شخوص كثيرة بطريقة الفلاش باك عندما صدمتنا بالنهاية من أول وهلة بمقتل التبريزي لتعود بنا مرة اخرى ونحن في أوج دهشتنا إلى التفاصيل فنستقبلها في نهم شديد. بعد ان قادني فضولي الشديد لقراءة تلك الرواية وجدت روحي وقد انغمست في عشق لا ينتهي مع التفاصيل فانفصلت تماما عن المحيط الخارجي لأنتهي من القراءة لأقف عاجزة عن التفسير فكيف اختلف الزمان وبقينا كما نحن فما الفرق بين التقاء التبريزي والرومي في عصر كان يسوده التعصب والفتن والكراهية عما نحن فيه الآن فمازلنا نعيش بين أقوام اعتبروا ان مجرد أداء الطقوس والمناسك هو جُل الدين وكينونته فألبسوا أنفسهم هالة من القدسية رغم طوفان الكراهية القابع في صدورهم وعدم قدرتهم على تقبل الأخر!! فإذا كان الله مالك الملك قد منَّ على من يشكك في ألوهيته بالحياة فكيف استطعنا نحن البشر الضعفاء ان نسلبهم إياها بزعم كفرهم وأن نصدر أحكاما مسبقة على من يختلفون معنا على أساس الدين أو الفكر والمعتقدات متناسين في ذلك أن لكل البشر عيوب ونقائص ، وان اشد قناعاتنا الراسخة قد تكون ناتجة عن سوء فهم بينٍ لا محالة. قواعد العشق الأربعون تؤكد على أنه لا قيمة للحياة بدون عشق اياً كان روحيا أم ماديا إلهيا أم دنيويا وإنه باختلاف العصور والشخوص والثقافات مازلنا بحاجة إلى الحب تلك الدفة التي تغير وجهتنا فتنجو بنا من أمواج متلاطمة وظلمات لا نهاية لها فنبصر بقلوبنا النور الذي عميت عنه العقول. عندما تضرع التبريزي إلى الله كي يرزقه رفيقا ينقل إليه حكمته التي جمعها من اسفاره ليلتقي بالرومي عام 1244 ميلاديا في قونية التركية ليستكملا معا مسيرة العشق الإلهي" أكد شمس في قواعده الأربعون أن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس فاجعل قلبك لا عقلك دليلك الرئيسي. واجه، تحد وتغلب في نهاية المطاف على النفس بقلبك. إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله وإن عشاق الله لا ينفذ صبرهم مطلقاً، فالصبر لا يعني أن تتحمل المصاعب سلباً بل يعني أن تنظر إلى الشوكة وترى الوردة، أن تنظر إلى الليل وترى الفجر. واننا في كل مرة نحب ، نصعد إلى السماء، و في كل مرة نكره أو نحسد أو نحارب أحداً ، فإننا نسقط مباشرة في نار جهنم فالقذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخرى فتزول بغسلها، ويوجد نوع واحد من القذارة لا يمكن تطهيرها بالماء النقي، وهو لوثة الكراهية والتعصب التي تلوث الروح. نستطيع أن نطهر أجسامنا بالزهد والصيام، لكن الحب وحده هو الذي يطهر قلوبنا. بالبرغم من بعض التحفظات على هذه الرواية في تمجيد الصوفيه إلا أنني أهديها إلى كل الذين أوهموا انفسهم بأنهم أوصياء على أخلاقنا و محبتنا لله فصنعوا من أنفسهم أوثاناً ورأوا أنه لا يصح ديننا إلا بتقديسهم والمرور من وديانهم القاحلة القابعة في ظلام لا ينتهي من الكراهية والدماء فإن حدنا عنهم كبلونا بالفجور والآثام ... فما احوجنا الآن ألى شخصية التبريزي وقواعدة الأربعون لمعرفة أن وجود الله لا ينحصر في المسجد أو في الكنيسة أو في الكنيس. وإننا جميعا مخلوقات مختلفة ومميزة. لا يوجد شخصان متشابهان، ولا يخفق قلبان لهما الايقاع ذاته. ولو أراد الله أن نكون متشابهين لخلقنا متشابهين. لذلك، فإن عدم احترام الاختلافات وفرض أفكارنا على الآخرين يعني عدم احترام النظام المقدس الذي أرساه الله.