إن خيال الفنان الإبداعي لا يستطيع لاتصال بالآخرين ما لم يشترك معهم بموروث جماعي. "بول ريكور" في مجموعة "تدحرج الصور "تكمن ظاهرة خاصة في الكتابة القصصية عند الشربيني المهندس، وهي ظاهرة القدرة على تقطير التجربة الإنسانية والتعبير عن مطامحها وأحزانها من خلال المزج بين العام والخاص، ومن خلال ترميز الواقع وتقطير جزئياته ودمجها في بعض المتناقضات والمفارقات الصغرى والكبرى الممتلئ بها نسيج المجتمع الإنساني، خاصة العربي منه الآن من خلال عدة دروب اجترحها الكاتب ليعبر من خلالها عن الواقع والمتخيّل في حياتنا المعاصرة، وليعبر أيضا عن عظم المأساة التي يعيشها الوطن العربي والتي تتجسد بصفة مستمرة من خلال الجديد في القمع والقهر الواقع على الحياة العربية كل يوم، واللافت للنظر في معطيات هذه المجموعة. وهذه الظاهرة التي توخاها في كتابته لها نجد أن الشربينى المهندس إنما كان يسير على هدي بعض كتابنا من الذين كانت الكتابة عندهم هي انعكاس لتشّوش الرؤية وتتداخل معطيات الحس والإيحاء بالصور السيريالية الفاضحة التي تأخذ مادتها من أعماق ينابيع اللاشعور، ومع ذلك فإننا نجد العديد من الخيوط القصصية، وهي وإن كانت نحيلة في بعض الأحيان إلا أنها كانت تسري بقوة وإتقان في تجاويف بعض هذه النصوص مهما كانت نحيلة تسري في تضاعيف النص. لذا نجده في هذه المجموعة يعزف على تنويعة لحن واحد تسري جوانبه مع الأحداث والوقفات والمشاهد والشخصيات التي انتخبها الكاتب من واقعنا المعاصر. والمجموعة هي المجموعة الخامسة في مسيرة الكاتب حيث صدرت له عدة مجموعات منها "وابتسم سعد زغلول"، و"المعاني المتراقصة"، و"بيوت من زجاج"، و"دوائر النوايا الرمادية"، وكل هذه المجموعات تمثل حجم وثقل الطموحات التي يسعى إليها الكاتب لتشكيل عالمه في مجال القصة القصيرة، وفي العزف على الوتر التجريبي عبر تنويعات متعددة في بنية النص القصصي التي يحاول أن يوّطن أبعادها في مسيرته متتبعا في ذلك آثار بعض الكتّاب من كتاب القصة القصيرة الحداثية . والمتتبع لتجربة الكاتب يجد نفسه أمام نمط من النصوص يحاول الكاتب فيها أن يتدرج من بنية القصة القصيرة، المليئة بنتوءات الواقعية وإحالاتها إلى بنية جديدة تحمل داخلها العديد من الجوانب، تأخذ هذه الجوانب من الرمز ومن ملء فراغات المتخيّل برؤى جديدة، من خلال استلهام ما يحدث الآن على مستوى هذا الواقع. كما أنها تثير العديد من الأسئلة حول العديد من القضايا المطروحة في حياتنا المعاصرة، من خلال استخدام التاريخ ورموزه المختلفة، والموروث الشعبي المتناغم والمتوائم مع هذه الوضعية، وأيضا استخدام الغموض وقناع الرمز ليعبّر عن قضايا وإشكاليات حاضرة في حياتنا ولكنها كثيرا ما تختبئ وراء الهموم اليومية والمعاناة الذاتية في حياتنا. بدأ الكاتب مجموعته بإهداء المجموعة إلى كل كاتب يمسك القلم في صمت، وأنهاها بتذييل وضع فيه مشهدا رمزيا جسد فيه البعد الرئيسي الذي مزج فيه العام مع الخاص والمجتزئ بعض منه من نص "غصن الزيتون". ومن هنا اختزل الكاتب ربما معظم التجربة التي عوّل عليها مضامين ما عبر عنه في هذه الصور التي دحرج نصوصها أمامنا، وأبان من سطورها ومشاهدها الواقع الذي نعيشه الآن بكل ما يحمل من سطوة وقهر وقمع، وقد جاءت التقسيمات الداخلية في مساحة المجموعة كافية لقراءة كل مجموعة على حدة وتحديد دلالات ما تحمله من إشارات ومضامين تعبر عن خط أساسي يشمل المجموعة، وهو الذي عبر عنه بأنه معارك صامتة يشارك فيها قلمه وأيضا تجربته الخاصة الثقافية والرؤيوية . وسوف نبدأ هذا التحليل وهذه الرؤية النقدية ابتداء من الجزء الثالث الذي أخذ عنوان " لحظة عابرة"، ففى هذه النصوص الثلاثة التي تجمعها هذه المجموعة نجد أن النص الأول "لحظة عابرة" يتكون من مشهد مركّب تجلس فيه الشخصية على سور الكورنيش، الزمن النفسي هو الغالب على واقع الشخصية وهو يتلاعب بمكوناتها من خلال هواجسها الخاصة، والموجات المتلاحقة اللاهثة المحيطة بها، حيث تمسك بتلابيب الشخصية متطلبات الحياة "فاتورة التليفون، فاتورة الكهرباء، طلبات الأولاد" ثم دوامة الهيمنة والقمع المتمثل في محاولة الاستلاب التي تتعرض لها الشخصية من اليهودي ديفيد مالك الشركة الجديد: "ديفيد مالك الشركة الجديد يشكر لكم التبرع بمكافأة نهاية الخدمة لسداد ديون البلد". ثم تبدو في خلفية هذا المشهد موجة البحر التي تجذب إليها الشخصية لتفقدها أهم مقومات الحياة ثم ينتهى النص بمقطع شعري يبث فيه الكاتب مشاعر الأنا والوطن في آن واحد. في هذا النص المقّطر إلى أبعد الحدود والذي يحمل داخله شحنات العنف والاستلاب والتأزم من خلال زمن نفسي يحيط بالشخصية ويفقدها توازنها الآني، حيث تتقّلب المشاعر، ويبتعد الوطن، وتتكالب الأزمات، يبدو الرمز الواقع على هذه الجزئية هو العنصر الطاغي، والمسيطر على المشهد بأكمله. ولعل المزج بين السرد والشعر في هذا النص، إنما جاء ليوحد العلاقة المترابطة بين العام والخاص كما بينّا في مشهد هذه اللحظة الثرية العابرة لحظة التعبير عن الوطن السليب. النص الثاني الذي يحمل عنوان": خيال مآتة يتنفس، والمقسم هو الآخر إلى جزئين.. الجزء الأول يحمل عنوان "حكاية الثيران البيض" ويبدأ النص فيه بهذه العبارة: "جلس والخوف يكسو عينيه، وقد هرب عرقه رغم أنه في الظل تطارده لفحات النار والهجير .. استعاذ بالله من الشيطان الرجيم .. وحكايات عواد وأرضه .. أشاح بيده يطرد مقولة سعد زغلول". استخدم الكاتب في هذا النص ضمير الغائب ليسرد واقع الخوف والتمرد الذي يحيط بذات الشخصية الحاضرة الغائبة في نفس الوقت والذي رمز لها بخيال المآتة. واضح طبعا الرمز حول هذه الشخصية في عصرنا الحاضر والخوف الذي يكسو هذا الواقع ومقولة سعد زغلول "مفيش فايدة" ولو أن الكاتب لم يذكرها في عبارته لكنه يحيل إليها ليجسد الواقع الآني الذي تعايشه الشخصية. وتسرى داخل الشخصية عوامل التمرد من خلال المخيال الذي يلازمها في استحضار التاريخ حيث استيقاظ الوعى يفرضه واقع الحياة، وحيث تمعن الشخصية في النظر إليه بحماسة شديدة أملا في أن تضئ إشعاعاته الخافتة الظلمة التي تحيط بهذا الواقع. لذلك يستحضر الكاتب ذكرى كافور وثوار طغاة في صحراء الهزيمة وسراب الأسطورة كما يشير بذلك. ويستخدم أيضا لمحاولة الغوص داخل تهويمات النص وجوهر القضية رموز التاريخ المختلفة ومستلهما في نسيج سرده فقرات من النص القرآني نذكر منه فى هذا الموضع": وجاءو أباهم عشاءً يبكون" في سورة يوسف، أجهشت جميلة بوحريد بالبكاء، غضب عرابي، وانسحب يوسف العظمة، ومزق أبوالقاسم أشعاره أمام عمر المختار، وعندما ضحك ميشيل عفلق سرى في جسده حزن شفيف وقد أحاظ به تنابلة السلطان، وتوقفت الصورة أما عينيه، واختفت الخضرة من الصورة، أعيته علامات الاستفهام الآخذه بخناقه، تباعدت كلمات الأب مع ظله الذي استطال كثيرا وأحاطت همسات الجد بمسامعه .. الجميع يبحث عن الحل". وتستمر التنويعات المستخدمة في نسيج النص لبلورة ما يحدث على مستوى الواقع من مآس وتهرؤات حتى ينتهى النص بهذه العبارة: "اضطربت الرؤى وقد اسودت الخطوط، وارتفع زبد الموت الحالم، واختفت الحجارة بينما ظلال الأشياء تخفي قبة زهرة المدائن التي أصبحت قانية الحمرة". بهذه العبارات التي جسدت عمق المأساة وطبيعتها الخاصة ينهي الكاتب نصه الأول ويمنحه فكرة رسم أشبه بالرسم التخطيطي النابع من رؤية شبه سوداوية تتناسب مع طبيعته الخاصة. وفي النص الثاني "غصن الزيتون" الذي يعتبر امتدادا لتجربة النص الأول يجسد الكاتب شبح نفس الشخصية وهو يسترجع نفس المدونة التاريخية مستلهما نفس الرؤية الغرائبية المتواجدة في النص الأخير حيث يشاهد في هذه البلورة التي وجدها تحت رجليه ملامح أفكار راودته عن الحنين إلى الأم الذي عايشه حين أحس بالجسد المستباح وهو يترنح تحت ضربات بلدوزرات العدو وضربات القدر المدوية. إن عبث التجربة التي عمل عليها الشربيني المهندس في هذه الجزئية من مجموعته تعبر عن ملجأ النفس الحساسة حين تنقشع عنها الأوهام من خلال المتخيّل والذي وجده في البلورة الملقاة تحت رجليه في نص "غصن الزيتون" والثيران البيض التي تأكل بعضها في قصة "حكاية الثيران البيض". وتعتبر هذه التيمة، تيمة العبث هي المعادل الموضوعي المختبئ وراء ركام النص والمجسد تجسيدا حيا لبعد مقاومة الإنسان العربي للعدو الصهيوني والأمبريالي، وهو باستخدامه لتيمة وإشكالية العبث في كتابة هذه النصوص إنما يستخدم علاقة أزلية كحالة من حالات ارتباط الإنسان بالعالم، ولعل العبث الذي تعيشه الحياة العربية الآن من خلال المتناقضات المتراكمة في تعامل الغرب معنا هو الذي يفجر حقائق الموت والحرية وكل الإشكاليات التي يعبّر عنها الكتّاب والمبدعون في نتاجهم، أو كما يسمية بعض الفلاسفة "وعى المحال"، أي أن نعي الأشياء الموجودة في حياتنا ونشاهدها بأبصارنا ولكننا لا نستطيع أن نحقق منها ما يمثل أبسط الأمور المرتبطة بحريتنا ووجودنا الإنساني. المجموعة في مجملها تستحق الحديث عنها في كثير من الجوانب خاصة الجانب اللغوي الذي نعتبره من أهم الجوانب المحيطة بنسيج هذه المجموعة، فاللغة في هذه المجموعة بشاعريتها، ومفرداتها المتحلقة حول واقع ما تعبر عنه تعتبر في حكم البطل، حيث احتفى بها الكاتب، وجعلها هي المعبر الحقيقي نحو تضمين أفكاره ورؤيته، والتعبير عن تجربة فنية في مجال النص القصصي. وجعلت من هذه المجموعة من المجموعات المتميزة إلى حد كبير.