إذا كنت تكتب بلا لذة، بلا متعة، بلا حب، بلا لهو، فأنت نصف كاتب فقط، هذا يعني أنك مشغولٌ جدًا بإبقاء عينك على السوق، أو أنك تنصت بأذن واحدة لما تقوله النخب الطليعية، هذا يعني أنك لا تكون نفسك، أنت حتى لا تعرف نفسك". هذه تأملات الكاتب الأميركي راي برادبيري صاحب روايات الرعب والخيال العلمي وهو يتحدث عن الكتابة في "الزِّن في فن الكتابة" ويتساءل إذا كانت الكتابة متعة أم معاناة، وإذا كانت متعة فما الذي تمنحه للكاتب وإذا كانت معاناة فما الذي تأخذه منه. وإذا كانت الاسئلة كثيرة في موضوع الكتابة، ومحيرة أيضا للكثيرين الذين يزاولون هذه المهنة سواء كانت كوظيفة أو هواية، فإن الكتابة بالنسبة لي تعطيك بالقدر الذي تأخذ منك، تماما مثل أن تجلس على رصيف في خريف أحد الأيام وتراقب ورقات صفراء تسقط عن الشجرة. ما علاقة الورقات الصفراء بالكتابة؟ الكتابة هي تماما مثل فعل الانتظار الذي تمارسه وأنت تنظر إلى تلك الورقات، كم تترك فيك أثرا وهي ترتطم بصمت وهدوء على حافة الرصيف، الكتابة هي تلك اللحظات القصيرة التي تمتد بين مغادرة الورقات غصنا في أعلى الشجرة وتهاديها في الهواء حتى تلامس برد الرصيف. في جزء من الكتاب يقول برادبيري "أول ما ينبغي للكاتب أن يكونه، هو أن يكون متشوقًا، يجب أن يكون شيئا مصنوعا من النشاط والحمى، دون حيوية كهذه، سيكون من الأفضل له أن يخرج لقطف المشمش وحفر الخنادق؛ يعلم الله أنّ هذا سيكون أفضل لصحته". وكثيرا ما تساءلت إذا كان ذلك التشوق يأخذ الكاتب قبل أن تسقط الورقة الصفراء، هل عليه أن يتوقع تلك اللحظات ويكتبها قبل حدوثها أم عليه ان ينتظر سقوطها حتى يكتب اللحظة، وهل التشوق أن نسارع إلى كتابتها وهي ندية خضراء أم نتركها تعيش طزاجتها وحياتها حتى تسقط على الأرض. وكثيرا ما قلت لنفسي ليس لدي تلك الحمى ولا حتى ذلك النشاط وإنما شيء شبيه بيأس تلك الاوراق وهي تترك غصنها، إذا ليس علي الخروج لقطف المشمش وحفر البنادق وإنما علي الخروج لقطف اللحظة ذاتها، وهي تتباطأ في أعماقي مثل قطف الانتظار في أيبس حالاته. أسئلة كثيرة تلح علي عندما أقرأ أسئلة الكتابة، ودائما وفي كل مرة يروق لي أن أشبه الكتابة بتلك اللحظات، فكثيرا ما وجدت تلك المراقبة تليق بالكتابة أو تشبهها إلى حد بعيد، على الأقل الكتابة الإبداعية التي تصف السقوط ولا تصف اصفرار الورق، تصف رحيلها عن الشجر ولم يكن يعنيها تماما إقامتها الخضراء الطويلة على الأغصان. في تساؤل آخر وجهه لي برادبيري "متى كانت آخر مرة كتبت فيها قصة قصيرة، حيث حبك الحقيقي وكراهيتك الحقيقية خرجتا بطريقة ما إلى الورق؟ متى كانت آخر مرة تجرأت فيها على إطلاق تحيزاتك العزيزة حيث تضرب الصفحة مثل سهم من برق؟ ما هي أفضل وأسوأ الأشياء في حياتك، ومتى ستتجرأ للهمس بها، أو الصراخ؟". أما أفضل الأشياء فهي تلك اللحظات التي أقضيها جالسة على الرصيف المقابل للأشجار في أيلول، وأسوأها على الإطلاق أن أسمع ذلك الحفيف يحتك بالأسفلت، في الحقيقة لا أسمعه تماما غير أن الهدوء الذي تنزل به يوحي بأنها تترك أثرا عابرا في الحياة، ربما أثرا مؤقتا بالنسبة للشجرة فهي تحفظ عن ظهر مطر بأن أحشاءها مليئة بالخضار المتوقع، وربما عابرا بالنسبة للرصيف الذي يرتطم به الكثيرون، لكنه ليس مؤقتا بالنسبة لي فتلك دورة حياة رحلت وبقي منها معي ذلك الإحساس العميق بين أن تترك الورقة الغصن وتستقر على الأرض. ومتى أتجرأ بالصراخ أو الهمس بتلك الحالة؟ يسألني برادبيري: ربما ذات خريف حين أرى أعالي الأشجار تودع خضرتها وتعطيها وقتا كافيا وهي تغادر أطول بكثير من تلك اللحظات التي التي يتلاعب بها الهواء، أطول من دورة ربيع وأقصر بكثير من عمر خريف شاحب على وشك اللامبالاة.