قبل أن تحط الطائرة التي كانت تقلنا من القاهرة إلى بانكوك، جال بخاطري هاجس مزعج قلب تفكيري رأسا على عقب، هاجس يتعلق بمدى قدرة فرقة رضا للفنون الشعبية التي صحبتها خلال مشاركتها وتمثيلها لوزارة الثقافة المصرية، ومدى نجاحها من عدمه في المهرجان الدولي للفلكور بتايلاند الذي تنافست فيه 24 فرقة فنية من 16 دولة أبرزها مصر وروسيا وتركيا والصين والهند وبولندا وتايلاند. هذه الفرقة ذات مجد تاريخي عريق وحضور فني زاه حققته طوال عشرات السنيين بعرق وكفاح بل وإبداع نخبة ممتازة من ألمع وأبرز الراقصين والراقصات بداية من محمود رضا وفريدة فهمي وغيرهما من رواد زمن الفن الجميل، ثم حافظت الأجيال التالية على خصوصيتها وتفردها كل تلك السنوات الطويلة من ستينيات القرن العشرين، حتى كنت مثل الكثيرين في مصر والوطن العربي شغوفا بالسماع والإنصات لقصص نجاحاتها في المهرجانات الدولية العديدة التي شاركت بها. ترى لماذا قفزت تلك الفكرة المزعجة إلى ذهني، ولماذا تمكنت مني عقب نهاية مهرجان سورين الدولي للفلكلور خلال الفترة من 14 وحتى 26 يناير/كانون الثاني الجاري، وفي طريق العودة إلى القاهرة؟ هناك حكمة تقول: إن التاريخ وحده لا يصنع مستقبلك، لأن المستقبل يصوغه الحلم والعرق والكفاح المستمر، هذه المقولة تنطبق تماما علي حاضر فرقة رضا للفنون الشعبية التي رأيت فصلا من فصول أفولها المدوي بعد سطوع نجمها طوال عشرات السنوات. لماذا وكيف؟ سحر التنورة ..لا يكفي! بالكاد نجح سحر التنورة المصرية وإبهارها الفتان الذي قدمه الفنان محمد صلاح، في تعويض عجز الراقصين والراقصات الآخرين (الذين يدخنون بشراهة) عن الأداء الحركي والبدني الذي تتطلبه الاستعراضات الفنية الصعبة، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج كارثية حال وجود منافسة وعروض قوية تحتاج مجهودا عضليا ومرونة وانتظاما في التنفس بما يلائم الحركة أو الإيقاع على خشبة العرض. ليس هذا فحسب، بل برزت على سبيل المثال لا الحصر بعض المظاهر والصور والأحداث التي شاهدتها عن قرب وراقبتها عن كثب، وهي تنمو باطراد مؤلم خلال عشرة أيام متصلة، بدأت معالمها الأولى في الظهور بمطار بانكوك الدولي المزدحم بالمسافرين، وتتلخص في عدم التعاون والتفاعل مع الأحداث الطارئة بروح الفريق الواحد، فلكل فرد كلمة ورأي لا يقبل النقاش ولا التغيير، وكذلك عدم القدرة والرغبة على التواصل والتفاعل الايجابي مع الثقافات الأخرى. إضافة إلى فقدان النظام والانضباط في النوم والاستيقاظ مبكرا، وهي مشكلات تجعل من الصعب بل من المستحيل على أية مجموعة قل عددها أو كثر أن تنجح في إقناع الآخرين بما لديها، وفيما يبدو أن طوفان التغيرات والتحولات في مسار الفنون والاعلام، وكذلك التحول الكبير في الأذواق، قد أثر سلبا على فرقة رضا للفنون الشعبية التي ظلت صامدة تتحدى الزمن، ليس ذلك وحسب، بل يبدو إلى حد بعيد أنها فشلت في التعايش مع كل تلك التحولات، ولم تستطع أن تواصل عطاءها وتميزها، واستمر ابداعها في خط بياني هابط. فرقة رضا للفنون الشعبية التي حققت الكثير من الجوائز الأولى في مهرجانات عالمية، وتميزت بأصالتها، وزارت عشرات البلدان منذ سنوات طويلة، كانت على موعد مختلف وربما سيئ مع جمهور مهرجان سور يندرا في تايلاند. جمهور المهرجان الذي توافد على المسرح الجامعي بمدينة سوريندار الذي يقع علي بعد أمتار قليلة من مقر إقامتنا، على قلته كان ينتظر ما ستقدمه هذه الفرقة المصرية، إذ أن معظم الاستعراضات والفقرات التي اشتهرت بها الفرقة أصبحت من الأعمال التي تقدمها في كل مناسبة. إذن ما الجديد في استعراض فرقة رضا؟ هذا السؤال بادرني به صديقي مجدي خلف الله مندوب العلاقات الثقافية "الصموت" أردف معلقا لم أر شيئا جديدا، فقد قدمت الفرقة عدة أعمال سبق تقديمها. هذا التساؤل ربما خطر على بال البعض، وربما غاب عن المسئولين في قطاع الفنون الشعبية بوزارة الثقافة. والسؤال هو كيف يمكننا إنقاذ مستقبل فرقة رضا للفنون الشعبية قبل فوات الآوان؟ قصة ثانية مع بداية رحلتنا في مطار القاهرة، التقطت أذني همهمات راقصة ذات صوت خشن مبحوح يميزه العارفون بأنه من تأثير الافراط والشراهة في التدخين؛ ناهيك عن التأثير السلبي وربما الخطير والمدمر على قدرات الإنسان العادي، فما بالك بالراقص أو الراقصة الذي يعتمد كل رأسماله على الجهد البدني والحركي والعصبي؟ حقا إنها أزمة تهدد سمعة ومستقبل فرقة رضا ما لم يتم تداركها سريعا من جانب وزير الثقافة المصري الكاتب حلمي النمنم شخصيا والذي أعرف أنه لا يقبل مطلقا أن يترك مشكلة أو أزمة تتفاقم بلا حل. تايلاند الأخرى حكي لي السفير حازم الطاهري سفير مصر في بانكوك الذي حرص على توديع وفد وزارة الثقافة وأقام له عشاءً من أشهي المأكولات المصرية التي حرمنا منها طوال هذه الرحلة، عن أن التنوع والتعددية هما نكهة الحياة في تايلاند، وأن جمال البلاد الطبيعي لا يقتصر على شواطئها وجزرها، بل إن التلال والجبال والغابات والأنهار والشلالات أجزاء من صورة طبيعية جميلة تختلف تماما عن صورة الحياة في المدينة أو في المنتجعات، أضف إلى ذلك سهولة الوصول إلى الريف التايلاندي الذي يضيف بعدا آخر إلى جمال الطبيعة في تايلاند. وأضاف أن المهرجانات جانب مهم من الحياة التايلاندية وتعطي الزائر فرصة ثمينة لا للإستمتاع بهذه المهرجانات فحسب، بل أيضا للإطلاع على جوانب مختلفة من التراث والثقافة التايلاندية، وهذا صحيح بصورة خاصة في المناطق الريفية حيث تدور السنة حول المواسم الزراعية التي تفصل بينها مهرجانات واحتفالات موسمية فتقوم مقام إجازات قصيرة يستريحون فيها من عناء العمل الزراعي، ومناسبات يعبرون فيها عن رضاهم وقناعتهم بما من الله عليهم من مواسم زراعية وفيرة. بعض هذه المهرجانات تلتزم بالتقويم القمري فيتغير موعدها بين سنة وأخرى وبعضها تقام في تواريخ سنوية ثابتة، ومع ذلك فإن هذه المهرجانات من الكثرة بحيث إن الزائر مهما كان تاريخ زيارته لتايلاند يستطيع مشاهدة واحد أكثر من هذه المناسبات الخاصة من هذه المناسبات الوطنية "سونغ كران" أو "عيد المياه" وهو يكون في رأس السنة التايلاندية الجديدة في 13 إبريل/نيسان و"لوي كرا تونغ" في الليلة التي يكون فيها القمر بدراً خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فالمناسبة الأولى يحتفل بها جميع أنحاء البلاد إلا أنها تتخذ طابعا نشطا في منطقة شيانغ ماي يقوم خلالها جميع المحتفلين برش المياه على بعضهم البعض وخاصة على المقدمين في السن. أما إحتفال "لوي كراتونج" فيختلف عن احتفالات رأس السنة التايلاندية كونه إحتفالاً هادئا رومانسياً يقومون فيه بالتعبير عن امتنانهم لنعمة وفرة المياه التي جعل الله منها "كل شيء حي"، ففي جميع أنحاء تايلاند يجتمع الناس عند الأنهار والبحيرات ليحتفلوا في موكب بهيجة على ضوء القمر وهو بدر منصات متنقلة رائعة يتم عرضها في العديد من الإحتفالات والكل يحمل في يده لفافة تضم عيدان البخور والزهور وشمعة مضيئة وقطعة نقدية. وغني عن القول إن هذا الإحتفال يترك في نفس الزائر إنطباعا رائعا يذكر مدى العمر، أما المهرجانات الإقليمية فإن أروع اثنين منها هو في الشمال الشرقي، ففي شهر يوليو/تموز هناك مهرجان الشموع في محافظة أوبون راتشاتاني، ويمثل هذا المهرجان بداية تراجع كبير حيث المسيرة الكبير في شوارع المدينة وهي تحمل شموعا مزخرفة وزاهية الألوان. وهناك أيضا مسابقة يتم فيها اختيار أجمل شمعة - تؤخذ إلى المعبد فيما بعد - لتنير فيه. وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول يتم الإحتفال بنهاية موسم تراجع الأمطار في ساكون ناخون بقصر من الشمع ثم سباق للقوارب. ويحتفي بهذه المناسبة بمسيرة تحمل فيها أشكالا مصنوعة من الشمع لمعابد البوذيين، ويتم عرضها في المعابد فيما بعد، وهناك السباق السنوي للقوارب التنينية لهذه المقاطعة حيث يتم التنافس فيه من قبل الفرق المحلية المهرجانات الأخرى مثل مهرجان الحراثة التي يقام في مدينة بانكوك العاصمة للتنبؤ بمدى وفرة المحصول السنوي للأرز، أو مهرجان جمع الفيلة في محافظة سورين تعطي الزائر فرصة لا تقدر بثمن للتعرف على العادات والتقاليد والطقوس التي تنظم حياة الناس في تايلاند منذ زمن بعيد هذه الإحتفالات والمهرجانات وغيرها. مناسبات أصلية تقام كل سنة كي يعبر الناس فيها عن فرحتهم أو امتنانهم لأمور مهمة وأساسية بالنسبة للحياة التايلاندية، ولا يتمسك التايلانديون بهذه المهرجانات والإحتفالات التقليدية لجذب وإرضاء السياح بل لأنها جزء لا يتجزأ من حياتهم اليومية وهم دائما يرحبون بمشاركة الزوار في هذه الإحتفالات.