لم يعد العرض التشكيلي في العراق مغلقا على تقاليد القاعات المغلقة، لأنه غير مقنع تماما، وأقصد هنا تلك التقاليد الروتينية لافتتاح أي عرض يبدأ بقص شريط من قبل مسئول سياسي، ومن ثم يدخل الجمهور للتمتع بمشاهدة جماليات مستهلكة لا تتجاوز التجريد. أما اليوم، فقد قدم لنا الفنان محمد عبد الوصي إجراءات واقتراحات لعرض تشكيلي فريد من نوعه في مجال الفن العراقي أولا والعربي ثانيا، ليس لأن ذلك الاقتراح قائم على أساس من الاختلاف والتميز فحسب، لكن الرؤية النظرية للعرض والأدوات كلها مختلفة وصادمة، حيث اتصل الفنان بنموذج مشاهد نخبوي يتألف من (الفنان فاخر محمد، والناقد المسرحي محمد أبو خضير والشعراء مازن المعموري وكاظم خنجر وعلي ذرب)، في ديسمبر الجاري، ليبدأ عرض الفنان محمد عبد الوصي من استقبالنا في الساعة الثانية ظهرا وصعودنا نحو سطح داره الشخصي، لنكون أمام وجبة من العروض التي فاجأتنا بمائدة من نمط مثير للغاية، تبدأ بطاولة وصحون من الدم والرصاص وخبز بأسلاك وقطعة من عظم ضخم وتلفاز بسرير عليه مجمرة ودخان وأعمال أُخر، جاءت لتؤكد مساحة التغيير الحاصل في تمثيل الأزمة اليومية التي نعيشها جميعا. ربما يتساءل البعض عن جدوى هذا العرض، والحقيقة فإن انحرافا كبيرا يتصدر المشهد الفني في ضوء تحولات الرؤية الفلسفية التي تعتمد استبدال مفهوم (الجميل) ب(المريع والمقزز) في واحدة من أهم تحولات الفكر الفلسفي لدى ادورنو منذ عام 1970, وهنا نكون أمام أجراء مختلف يستوجب تغييرات في كل مفاصل العرض التقليدية المؤسسة لنموذج (الجميل) التقليدي الذي يتألف من نمط إجرائي يبدأ بطريقة العرض في قاعة مغلقة بانتظار افتتاحها على يد مسئول سياسي أو شخصية معروفة اجتماعيا, ومن ثم التمتع بالنظر الى لوحات تجريدية أو واقعية تمنحك غشاوة كاذبة لمعنى أن يكون الإنسان فنانا ذات يوم. وفق هذا المنطلق تعامل الفنان محمد عبد الوصي لينتج لنا خطابا فنيا هجينا خاض غمار مأساته الشخصية في ظل ظرف الحرب الطائفية التي استباحت كل القيم الإنسانية, ومنه الى علامات الفعل الثقافي لخطاب القتل والإبادة المتمثل في أدوات القتل مثل (مثقاب الرءوس, السكين والحربة, النار, الإعلام التلفازي, الدم, الرصاص, التمثيل بالجثث) وغيرها من الأشياء التي أصبحت مألوفة بالنسبة للفرد العراقي طيلة فترة الصراع الجارحة لضمير البشرية، ومنه إلى تشكيل مقترح عرض مغاير يعتني بالحدث والإشارة إلى تفريغ الواقع من محتواه, بمعنى أن العمل الفني هنا يقدم لنا شريحة مقتطعة من الواقع أو الحدث, فهو كتلة زمانية تعيد توصيف اللحظة الثاوية في الذاكرة الجمعية وتؤدي ذات الفعل الإرهابي في مكان العرض. أشير إلى صفة الإنسان المنحط في بنية العمل الفني بما هو أثر لانحطاط قيمه الأخلاقية, فالأدوات المستخدمة (سكين, حربة, طلقة,دم, رءوس مقطوعة, تلفاز مشوش, فحم, أوراق ممزقة صور شخصية الخ) تحمل نسقا ثقافيا معتما لنمو جنس بشري غير قادر على تحمل الحياة بصيغتها المتوترة والمستباحة في ضوء تبديات هواجس العدمية المفرطة لرفض المختلف دينيا والمبرر هو الأكثرية, أي المجموع الغالب على حساب المغلوب كأضحية لإرادة الشر في داخل كل شخص منا.. وهنا يكون العمل الفني بالنسبة إلى الفنان محمد عبد الوصي صورة هوياتية لمجتمع الانحطاط, لكن الوجه الآخر للعمل هو نشاط الخطاب الذي يطرحه الأداء لحظة العرض وهو يقوم بتمزيق الأوراق والرسم العشوائي وحرق الفحم وممارسة الأكل والتمتع بشرب الدم وظروف الرصاص. يأتي دور مشاركة المتلقي في العرض, فقد جلس الفنان مع أصدقائه على طاولة الغداء وأمامهم صحون مليئة بالدم والأسلاك وغيرها, كما لو أنهم يمارسون طقسا من نوع خاص يتجاوز اليقينيات والأفكار الجاهزة ليقدموا لنا مشهدا أدائيا يتناولون فيه خلاصات الواقع العراقي وخلاصات الجثث والحروب بما تحمله من إشارات العنف الدموي, وكأن بالفنان يريد أن يقول إن الفن لا يصلح في زمن الكوارث وعلينا تجاوزه, لأن ما تقدمه الجماليات قرين بأيديلوجيا الدولة النائمة أو تغطية الحقيقة عن مشاهدة الإنسان المسخ.. وبهذا يصبح الفنان هو العمل الفني والمتلقي مرة واحدة لتمكين الخطاب من تجاوز الأسيجة المتعالية عليه، كما لو أن ما يحدث هو محاولة للقفز على الشرك, في ضوء قدرة الفنان على استبدال إصطلاح المعرض التشكيلي بالعرض ليكون اقرب الى جوهر المعادلة النظرية الجديدة التي تحيط بالفعل وتحتفي بتثوير الرؤية والانتقال من (الجميل) إلى (المريع) في واحدة من اكثر العروض ابتكارا وتغريبا طالما انتظرناها لتكون فاتحة أمل بتحولات فكرية تقود التشكيل العربي إلى منطقة جديدة من العمل والإضافة بعين ثالثة تنظر إلى المشهد بواقعية مفرطة وتزيل الستار عن افتتاح عصر جديد من الألفية الثانية.