عرفنا أعمال الفنان التشكيلي الكبير "عادل السيوي" بداية من عقد السبعينيات، وقد قام الفنان إلي جوار إنجازاته الإبداعية بدور ثقافي كبير في حياتنا، فقد نقد أعمالاً تشكيلية، وترجم دراسات عديدة، منها كتاباه المهمان : "نظرية التصوير لليوناردو دافنشي" و"نظرية التشكيل لبول كلي"، كما قدم دراسات في الفكر الجديد، وشارك الفنان في معارض دولية عديدة، منها بينالي "فينسيا"، وقد صدر مع افتتاح البينالي، كتاب بالإنجليزية، يتضمن سيرته الفنية، وحواراً عن رحلته الشخصية، وكثيراً من القضايا الفنية، ومنها علاقة الفن بالجماهير، ومسألة : "الوعي التشكيلي" وغيرها . وللفنان كتاب أسماه (عين التابع) وهو كما قال هو عنه محاولة لقراءة خريطة الفن المعاصر من عين فنان مصري، وفيه يخوض لأول مرة تجربة وضع ملاحظاته في كتاب، وليس ترجمة ما كتبه الآخرون . وكانت الحداثة في السبعينيات تسود الحياة الثقافية في الخطاب السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي الإبداع بمختلف أجناسه وأنواعه. والحداثة تعني تفكك الثقافة التقليدية لتظهر الثقافة القائمة علي الأسس العقلانية التي تنادي "بالتنوير" في مختلف مجالات الحياة، وتتصف الحداثة بكونها بنية كلية، وبأنها وعي نوعي ينتمي إلي سياق شامل. والحداثة تتمرد علي كل ما يعرقل التطور، وعلاقاته، لأن القيود لا تعني سوي التخلف، وكان الفنانون الحداثيون يتطلعون إلي المستقبل، وينظرون إلي العمل الفني باعتباره عملية تركيب بين عناصر متفاعلة متحركة، وحصيلة النص التشكيلي، أو رؤية الفنان لا نستطيع الحصول عليها إلا بعد أن يتم إنجاز اللوحة، فهي تالية لعملية المعالجة التشكيلية، وعرفنا هذا لدي الفنانين المجايلين لعادل السيوي: محمد عبلة، وصلاح بيصار، وعمر جيهان وغيرهم . وبعد انتهاء عقد السبعينيات علي وجه التقريب، بدأنا ندخل إلي زمن الكومبيوتر، والتكنولوجيا والالكترونيات، في مجتمع المعلومات، وهذا تطلب تغيراً في كل شيء بداية بالواقع الاقتصادي والسياسي، وانتهاء بالأخلاقيات وبالذائقة الفنية. في وقت بدأت تتهدد فيه العقلانية بسبب ازدياد معدلات التشوش وافتقاد الثقة في الكيانات الكبيرة والأيديولوجيات الكبيرة، وكان الناقد المصري الأمريكي "إيهاب حسن" قد أعلن استحالة التحديد، وتوسع هذا المعني كثيراً حتي شمل العمارة أولاً، ثم اكتسح بالتدريج مجالات الرقص والمسرح والتصوير والسينما والموسيقي، في مرحلة انتهاء "الحكايات الكبري"، الذي يصفه الناقد الفني "أميتاي اتزيوني" بأنه عصر "ما بعد- الحديث"، لقد صرنا نعيش المجتمع المعلوماتي، الذي يعتمد الترقيم Digitizationوالذي يولد أوهاماً واقعية من خلال الحاسبات والتصوير الإلكتروني، وهذا كله يعد نتيجة للتكنولوجيا الثقافية الجديدة . لقد انتهت الجماليات الشكلانية السابقة، وأصبح النص التشكيلي يستمد قوانينه من المجتمع الذي صار بدوره يتغير تغيراً مطرداً، لقد صار العمل التشكيلي معبراً عن تلك المقومات الحضارية الجديدة, فظهرت اتجاهات فنية تصيغ جماليات فنية مختلفة، وتهدف إلي التواصل مع المجتمع بكل متغيراته، في حس جمعي واضح، ومن هنا نفهم اتجاه الفن إلي الجماهيرية، حيث بدأت موضوعات الفن تخاطب الجمهور العريض فكان لابد من ترك المجاز الفني السابق، والاتجاه إلي أشكال فنية جديدة تخاطب الناس مباشرة، فانتقل الفن من التجريد إلي البيئية الملموسة، انتقل من التأثيرية والتكعيبية والتجريدية، إلي الفن المحسوس، وتداخلت فيه الوسائط التعبيرية غير المسبوقة. وقد تغيرت وجهة نظر الفنان الآن: غير رأيه في كل ما كان يعتبره من المسلمات سواء علي مستوي المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي، وأصبح حراً في اختيار الأداة والرؤية، وأصبح الفن أيضاً يبتكر القضايا والوسائل التي تمكنه من التواصل مع مجتمعه من خلال تاريخ هذا المجتمع وخصوصيته، محطماً الفكرة القديمة التي تصور الفنان علي أنه منتج أعمال جمالية تسعي للكمال، وتوضع لدي تجار اللوحات , في سوق الفن التشكيلي، ولم يعد الفنان منتجاً للقطعة الفنية المتفردة، بل صار أكثر تواصلاً مع المجتمع وأكثر حيوية معه، والفنان عادل السيوي في أحد معارضه الأخيرة، اختار مجالاً يصل من خلاله إلي المتلقي مباشرة، وهو مجال فناني السينما المصرية في المرحلة الأسبق، وهم الفنانون المحبوبون لدي المصريين، والذين شكلوا ثقافتهم لفترة ليست بالقليلة . ولكن الفنان عادل السيوي لا يقدم ما يقدمه رسامو الوجوه محدودو الأفق، ولا يقدم فن البورتريه، بل يقدم فناً شعبياً جديداً يوصل من خلاله دروساً أساسية في مجال الفن التشكيلي، وكما يري الفنان نفسه فإن اختيار تيمة الوجه سوف تحل له مشكلة أساسية من مشكلات النص التشكيلي، وهي مشكلة بنية العمل الفني نفسها، فسوف يكون هناك وجه يتوسط مساحة اللوحة، وانطلاقاً منه يمكن أن يتحرك للتعبير عما يريد من خلال تفاصيل أخري أو بواسطة اللون، خاصة أن الوجه هو شيء متخيل من ابتكار الفنان ومن صنعه، علي عكس البورتريه الذي يعين أشخاصاً في الواقع، سواء كانوا معروفين أم مجهولين، يقول الفنان في هذا التعبير النوستالجي الحميم : ( بدأت أرسم نجوم عمري في مرحلة لاحقة بسبب الحنين إلي أيام الطفولة والمراهقة فرسمت إسماعيل ياسين وعبدالفتاح القصري وسعاد حسني وهند رستم في لوحات تتسم بالبساطة وتعتمد علي المباشرة في الطرح، وكذلك اعتمدت علي تقنية البوستر السينمائي، في محاولة للتواصل مع الجمهور انطلاقا من الذاكرة الجماعية) . وكان من الطبيعي أن يثير الفنان ضجة هائلة في الصحافة من قبل النقاد الصغار، أو النقاد الذين حبسوا أنفسهم في مجال ضيق في التصور الجمالي الحداثي الذي يمثل نهاية العالم بالنسبة لهم، ونشرت بالفعل مجموعة من المقالات تهاجم المعرض، ولكن الفن دائماً مجال للتغير والبحث والثورة الدائمة، والفنان الكبير لابد أن يفاجئنا، ويكسر توقعاتنا، ويجعل من إنتاجه دائماً موضوعاً للتساؤل الجذري المستمر حول الفن ووظيفته في المجتمع، ويجعلنا نعيد التفكير مرات ومرات في مسألة طبيعة علاقة الفنان بعمله التشكيلي. وبالتأكيد فإن ما فعله عادل السيوي سوف يحفزنا للتساؤل، وسيجعلنا نغير تصوراتنا التقليدية عن الفن ودوره، وسوف ينشط في عقليتنا فكراً جديداً، يوسع معني التشكيل في حياتنا الثقافية، فلا يصير مجرد فعالية بصرية فقط، بل يصبح التشكيل قادراً علي الاستجابة لحاجات فكرية وعاطفية وروحية للإنسان، ويصبح التشكيل قادراً علي أن يأخذنا إلي السينما والمسرح ومختلف الفنون الأخري. لقد ترك كثير من الفنانين اليوم صالات العرض الثابتة، وأنشأوا أماكن العرض المؤقتة الصغيرة، مثلما فعل فناننا "السيوي" الذي باع أعماله الفنية في العرض الأول لها، وهكذا .. لن يبقي الفن التشكيلي في صالات مغلقة دائمة، بل سيتحرك مباشرة من يد الفنان إلي عين المتلقي، ليبدأ الفنان في عمل جديد يشهد علي أنه يقظ، وأنه يعايش الحياة بكل ما فيها من إيقاع مطرد .. وبالفعل هناك عدد كبير من فناني اليوم اتجهوا للفنون سريعة الإنتاج، سريعة الوصول للمتلقي، كما أن هناك فنانون اتجهوا للطبيعة مباشرة مثل فناني البيئة، وأصحاب توجه فن الأرض، وغير هذا من الفنون المبتكرة . وبسبب تعدد مصادر الفنان اليوم، وتعدد معاييره فلن تكون هناك مقاييس مسبقة لتقدم الفن التشكيلي يحفظها النقاد ويطبقونها بطريقة الببغاء، بل ينبغي علي الناقد أن يكون متسع الثقافة بالدرجة التي يلتقط فيها توجه كل فنان وخصوصية أدواته وخاماته، ويلتقط فيها كيف أنه سوف تتدخل في الفن أجواء اجتماعية وشعبية وأخلاقية وفلسفية إلي جوار الأجواء الفنية.