صدرت رواية "ريكامو" ليوسف رزوقة عن دار زينب للنشر في 245 صفحة، من الحجم الكبير، وقد كانت لوحة الغلاف من إهداء الفنان البانامي اوفالدو هريرا غراهام. تتألف الرواية من عشرين نوبة بعد نوبة الالتفاف ونوبة الدخول. و"ريكامو" هي الرواية الرابعة ليوسف رزوقة بعد "الارخبيل" في 1986، "مسمار تشيخوف" 2013، "وداعا براءة العالم" في 2014، الى جانب مدونته الشعرية الثرية. المتن الحكائي تشي الرواية بحاضر متصدع في بلد عاش ثورة ركب عليها قطاع التاريخ واللصوص، كانت بمثابة "حدث رج البلاد" رقصت فوقه زواحف جاءت لتلقي بسمومها على البشر. ولكن هناك في نقطة ما في أعماق الشخصية الرئيسية "شمار" رغبة في الافلات من الموت بالحياة، "فحين تحلق الغربان ولا تحط حمامة بيضاء على كفك، لا يرنك الغزاة الجدد الا كائنا متشظيا". وتقدم الرواية صورة سادية للوافدين الجدد، في استهدافهم للذاكرة، وفي محاولاتهم لتفتيت الذوات البشرية وجرحها وخمشها كما عنّ لهم، فكانت العناوين فتوة واضحة للتنكيل بأجيال تونس ما بعد الاستقلال، بمن انتقلوا الى العاصمة وعثروا على وظائف وعلى سكن وعاشوا حياة شبه مستقرة اجتماعيا وعرفوا منافذ عاصمة البلاد "ترشيش" ومداخلها ومخارجها. فلم تكن عودة "شمار" من العاصمة "ترشيش" التي اصبحت مدينة الكوابيس الى قرية الذاكرة "وادي العسل" اختيارية، بل كانت هربا الى سراب موحش ومثير، الى ريف كان يلم عوائل ريفية مبعثرة تعيش على الطبيعة. ولم يعد مسقط الرأس بسيطا كما كان، ولكن "شمار" كان يبحث عن وسادة تقيه من الموت بالحياة، عن نوم يبشره بيقظة قد تنفذ به الى واقع غير الذي استفحل بالذات والبلاد، اسوة بالولي الصالح في بلدته كان اسمه، وفي مكان قصي اراد الاستقرار. فانشأ قيطونه على تلة جوار الدار الكبيرة، قيطون وخروبة هرمة. للذاكرة لوحة وشم عليها اسمه وحوش العائلة، وقد خلا بعد موت أبويه من كل روح، يذكره الحوش بوالده عزام او عزرائيل حفار القبور والآبار، وامه التي ماتت بعد ان عضها كلب. خلفية أكبر في اللوحة الوشم تتسع لريف يذكره بعلاقته مع "شامة" التي خانته مع والده، ذكره ما اتاه ابوه "وعاف المكان ولم يجد ملاذا وهو في حيرة لا مخرج منها الا.. الرحيل الى ترشيش. لم تكن عودة "شمار" فردية الى ذلك المكان بل التحقت به "ياسة" وتركت عنده ابنتها اسماء، ياسة اليسارية التي عرفها ايام الجامعة وعاش معها مغامرات عاطفية، والتي نعتها بشعلة النار، الثورية المشاكسة، صحافية استقصائية، وجدت نفسها ابنة أحد اثرياء البلد بينما باعها والدها الاصلي وهو أصيل "وادي العسل" الى عائلة ثرية بالمرسى، وتزوجت من رجل اعمال اغتيل بعد الثورة بيد قناص، وهرب والدها بالتبني الى تل الربيع، وتركت ابنتها "اسماء" عند شمار لتلتحق ب "طه" في سوريا ابن الجيران القديم الذي تبنى الديانة المسيحية ثم أصبح جهاديا في سوريا، وهناك حفزته ليقود العملية الانتحارية، فهلك فيها، ثم هربت الى فرنسا وحصلت على اللجوء السياسي، لتعلمه في رسالة ان اسماء ابنته وانها نتاج مضاجعة جمعتهما في تركيا، اسماء التي استقرت في "وادي العسل" وأصبحت مدرسة هناك ثم تزوجت آخر الرواية. في فضاءات الحاضر والذاكرة تفوح روائح الخيانة، روائح من تظاهروا بالثورية ليبعدوا الاجيال المتعاقبة التي بنت دولة الاستقلال تحت ذرائع واهية، حتى "ياسة" الثورية أبعدوها فاختارت العمل مع صحيفة فرنسية. والخيانة لم تكن خيانة اللحظة التاريخية فحسب بل الحاضر بني على خيانات الماضي، خيانة والده لوادته كيمة: "كيمة نتنت عيشه وحديقة حواسه العطرة"، خيانة شمار لزوجته مع ياسة: "ليلتها وهما في اسطمبول، ثأر شمار من اكلة الثوم في غرفة النوم، اليس من اكل ثوما او بصلا فليعتزلنا". في ظل هذه الخيانات يظهر القط الفيروز بادي يقلم اظافره وهو مهووس بالنظافة، "تسمر الفيروزبادي عند باب الخروج.. يشيع العروس ومن معها ويجود، مستغيثا او كالمستغيث، مواءه وفي عينيه ومض غريب: بمن يتمسح، بعد الان، وقد رحلت". دلالة العنوان العنوان "ريكامو" ورد في الرواية مفردة نكرة، وهي كلمة كانت ترددها الغجريات من اصول اسبانية في تونس في المدن والقرى عند بيع الحواشي هي للتوشية ولتطريز الملابس او الاغطية والافرشة وكراسي السعف والستائر، وعرفت الغجريات بجمالهن الاخاذ ولباسهن الفضفاض الموشى، وقدرتهن على دخول البيوت واحداث حركة حميمية. وكان "الريكامو" في الرواية مصحوبا في ذاكرة "شمار" بصوت الغجر الذين يدقون الابواب لبيعه بوجوه جميلة مبتسمة في واد لا يبتسم، وكانت له معه قصة حميمية: "كان شمار يغافل امه ويختلي بالريكامو المخبوء في صندوقها المركون في غرفة النوم.. يجذبه الريكامو ولا يدري لماذا؟". الريكامو فقط هو الشيء الجميل في الذاكرة، وهو الذي يذكره بليلة حميمية في تركيا، تبين فيما بعد انها انتجت اسماء، هو الواقع الحلمي لشمار الذي كان قد فقد ابنة في سن الزهور وامراة عانت كثيرا بعد رحيل ابنتها، مما أشعره بقساوة القدر المقرف، وليلة الريكامو هي النقطة المضيئة في ذاكرته والتي حلم باسترجاعها: "تلك الليلة غرق شمار في رغوة الركامو.. تخاريم صابونية، منمنمة ورهيفة. شمار وهو في البازار مع ياسة، لفت انتباهه الركامو.. ركامو لذيذ يسيل اللعاب.. فاشترا مقدارا مضغوطا منه في بالة فزها بمجرد بلوغ (العش المؤقت) في نزل خمس نجوم". ارتبط الريكامو بسر الجمال وبهجته، بالتنقل والرحيل الى حيث المغامرة، الى حيث الحياة تطل في صورة اسماء او سماء تشير الى افق ومنفذ، الى اصل ثابت وآخر مقترن بالرحيل والعودة "لم اطرز شيئا ذا معنى في حياتي.. اسماء جاءتني مطرزة على طبق من ذهب في الوقت المستنقع وقد تخرم كل تطريز لي.. لكأنني اسمع صوت تلك الغجرية الاسبانية يا ياسة يتردد في انحاء ذاكرتي ريكامو! ريكامو! فإذا بجسمي كله في حالة نيرفانا.. يتطاير في الفضاء اللامتنهي شظايا من نور". لم تعد حياة شمار متشظية، في واد العسل بل انجز مشروعه وهو مركب ترفيهي ثقافي تجاري. رواية الحاضر والذاكرة عند العودة الى واد العسل والانتقال من العاصمة ترشيش كمكان ابوي متوتر الى مكان امومي/ غاب فيه الصراع الايديولوجي ليتحرك في بيئة مسالمة أمومية شخصياتها متشابهة من حيث تعلقها بهذه البيئة: شمار، اسماء، ام الخير التي عادت من السيجومي لتستقر بحوشها القديم، بيئة لها طقوسها وعاداتها، فياسة او شامة دهنتا عند الولادة بدم الوطاويط. وواد العسل هو الفضاء المكاني الثابت الذي يمكن اللجوء اليه عند هبوب العاصفة، فضاء مسالم آمن يقوم بوظيفة التهدئة, تحول في الرواية الى فضاء الحلم المقترن بالذاكرة، فلم يعد الحاضر قائما على تكسرات وتشظيات بل اعادة تشكيل نسيج العلاقات الانسانية الاجتماعية وتوشيتها، عبر نسج قصة شمار الجديدة، فاذا بالفضاء الثابت يصبح فضاء متحولا، ينشطر ليلتحم، ويحدث حركة التحول. وقد اعتمد الكاتب على الحوار لنعرف الكثير عن هذه الشخصيات، على الرسائل، على لحظات التذكر، النبش في تفاصيل الماضي، ورواية أحداث كثيرة عنه، ووصل الحكايات ببعضها باعتبارها تؤدي ادوارا وظيفية اذ لا يمكن ان تنسج حكاية الحاضر دون الغوص في حكايات الذاكرة. فتحولت الشخصيات الطبيعية الى كيانات زاخرة بالأسئلة والافكار والعمق الانساني، شخصيات وان اختلفت في تركيبتها الذهنية او مستواها العلمي والثقافي، تعيش في فضاء بعيد عن الصراعات الايديولوجية، هو بديل او مقابل للصراع السياسي في ترشيش وفي سوريا وفي فرنسا، لترتبط الشخصيات ببيئتها وتلتصق بمكونات وجودها. تلتقي شخصيات الرواية لتشكل نسيج القصة من الماضي يجمعها رباط ثقافي اجتماعي عبر العادات والسلوكيات والردود اللاوعية لتخرج الشخصية الرئيسية "شمار" من العزلة وتندمج في واقع ذي هوية ومرتكزات مرجعية.