تتناول فطورها، كمن يملأ ثغرة بعجين التراب، لقد ساقها الحلم باتجاه الماضي، باتجاه غرفة ضيقة بالطابق السفلي، يتناثر عليها أثاث رث، لا يحجب تراب أرضها الرمادي الخشن بساط، أو حصير.كان كل شيء صدئا، و يوحي بفقر مريع. عشرون عاما، ما تزال الغرفة الضيقة الشاحبة تربض في خلايا الذاكرة جدران مخدوشة كظهر سمكة عجوز .................................................................... مع بداية كل المساءات، تستحوذ برودة جافة، و تسمع أصواتا كالصفير المخيف. وترى كائنات صغيرة تعبر أرض الغرفة الرمادية، ترتجف، و تعلو وجهها صفرة فاقعة. تضم يديها الصغيرتين إلى صدرها، وتجمع ساقيها. تهدئ حليمة من روعها : لا تخافي هذه عصافير. من يومها اكتسبت العصافير مخالب ..................................................... اسكتي وإلا أعطيناك للغول تسترجع ما بقي من نفسها في هذه الأمكنة. لم تكن العصافير عدا فئران، ولم يكن الغول سوى امرأة. تسكن في الغرفة المقابلة عندما يشتد بكاء نجمة ويتعالى صراخها، ترتدي تلك المرأة شوالا وتلبس يديها خفين تضعهما فوق رأسها وتقصدها محدثة ذلك الصفير المخيف. - لم كانت تبكي وهي في الخامسة، كل ذلك البكاء المتواصل ؟ حتى اليوم يبدو لها ذلك غامضا، وكأنما قدرها أن تبكي وكفى. كانت ترى الغول فعلا. تراه وظله الذي يعكسه ضوء الفتيل الزيتي على الجدار المتآكل . تضع رأسها في صدر حليمة وتنام محشوة بالرعب. وقد نفذت برودة إلى كل عظامها . حتى اليوم لا تعرف أبدا لماذا أعطتها أمها لحليمة و هي في عامها الثاني هل يولد بعض الأطفال بإدانة ما ؟؟ هل شيء "ما" يسم وجوههم الصغيرة فيخشاهم الكبار ؟... كل ما تذكره أنه كان بوجهها صفرة فوسفورية لا تنطفئ، ونظرة جد منكسرة. تأتي بها حليمة أحيانا إلى بيت درب السلطان. كانت الوجوه هنا في هذا البيت غير وجوه بيت حليمة، تلك الوجوه الرمادية و المستطيلة. الأثاث هنا باذخ غير ذلك الأثاث الرث. هنا لا يوجد صفير الغول الذي يبدأ مع المساء. هنا مذياع "ماركة ريلا" موسيقى و ألحان. لم يكن أيضا الفتيل الزيتي الذي يعكس على الجدار المتآكل هيئة الغول. هنا المصباح الكهربائي . أي شيء يجعلها تستوحش هذا البيت ؟.. كانت تريد أن تردها حليمة على عجل إلى الغرفة ذات الجدران المقشرة، إلى ظهر السمكة العجوز. .................................................................... هل هي في حاجة إلى الغول، الذي يأتي به الليل ؟ كأنها جزء من هذا الرعب ..! تحب الانتماء إليه ؟ لقد أدركت الآن، أن تلك الغرفة القذرة و الضيقة ومع ما تحفره في داخلها من خوف، كانت أفضل من نعيم لا تحس بالانتماء إليه.. أنى لهم أن يحبوا !.. انقطعت السكينة لأنك حاولت أن تتذكري يا نجمة طفلة غريبة الأطوار، ذات الطباع التي لا تأتلف مع طباع ذلك البيت الفرح..!! تذكر أن سيدة هذا البيت احتضنتها في غياب حليمة مرة، ألصقتها بصدرها و قالت لها : أنت ابنتي أنا، لست ابنة حليمة جزعت نجمة، و ظلت تنتحب إلى أن جاءت حليمة و أخذتها معها . من المسؤول عن يباس ما بينها و بين أمها ؟ هناك في غرفة حليمة كان المساء يتقدم بجيوشه المخيفة و القاتلة. غير أنها إذ تلوذ بصدر حليمة تحس أن صدر حليمة قادر على أن يهزم كل تلك الجيوش، فتنام في صدرها. وهنا، هنا معزولة، تقارع الوحدة، والخوف. كانت في الصباح. في تلك الغرفة الرمادية و الجرداء تصنع لها حليمة عروسة القصب و تؤثث لها عالما من الوهم ، فتستأنس به . وفي الليل أو عند بدء المساء تركب ظهر حليمة فتغني لها : نيني يا مومو نيني حتى يطيب عشانا ولا ما طاب عشانا يطيب عشا جيرانا لقد رأت ضوءا باهتا، و رأت الغول يمد يده إليها، برغم أن صفير الغول كان يرتفع مرة مرة، غير أن نشيد حليمة الليلي كان يقهره. اعتادت على هذه الضفيرة الليلية : صفير الغول و النشيد الشجي فجأة اقتلعوها من حليمة. لا تعرف السبب. سيقت إلى بيت آخر، إلى أم ثالثة. إلى أم اسمها خدوجة ، إلى مدينة نائية . مع الليل يأتي سعال متواصل، فكانت ترغم على شرب ملعقتي زيت زيتون، بها قطرات من زيت قطران كل ليلة للعلاج. استمر ذلك أسابيع أو أياما. لا تتذكر الآن بالتحديد. فقط ما تذكره هو مرارة الدواء . فجأة نسيت المرض. نسيت كل شيء لقد جاء والدها لزيارتها صحبة أخيها فجرت نحوهما، و تعلق جسدها الصغير بصدر والدها، فحملها إلى صدره، وعانقها، ثم نزلت عن صدره لتعانق أخاها، وليرافقا الوالد إلى صالة الضيوف. فتح الوالد حقيبته، و أخرج لها ما أحضره لها من ملابس و حلوى، وهي تتفرج على ما أحضره لها والدها، كانت مرة مرة ترفع عينيها إلى المتحلقين حولهم، و تحديدا تتجرأ على أن تنظر في عيني خدوجة كمن يتحدى، لقد تلاشى الآن خوفها، نسيت دمية القصب، و انخرطت مع أخيها في لعبته، حيث حفرا معا في تربة البهو الخارجي، وزرعا به حبات قمح، وبدءا يسقيانها من حين لآخر. ناظرين إلى التربة كل حين، ينتظران أن تطلع سنابل القمح التي زرعاها هذه الظهيرة . هذه البهجة لم تدم، إذ نودي على الأخ. لقد حانت ساعة الرحيل عنها. لم تخلف جراحات كل مساءات طفولتها جرحا أعمق من جرح هذا المساء. تجري وحدها في أرض خلاء. في هذه المدينة النائية. هناك كان المساء يتقدم بجيوشه المخيفة، والقاتلة.غير أنها إذ تلوذ بصدر حليمة تحس أن صدرها قادر على أن يهزم كل جيوش الليل فتنام، هنا في هذه القلعة الباذخة السرية و الممتنعة، كانت تحس أنها وحدها. الليل بدون غول. بدون جرذان. بدون بوخنشة. ولكنها وحدها . كانت حليمة تغني لها في الليل فيهزم نشيدها الودود العذب الغول، والأجسام الرمادية الصغيرة، التي تتراكض أسفل السرير . أم ثالثة ومزق من وجوه أخرى وغول آخر في بيت آخر في مكان آخر بعيد هذه المرة . هل قدرها أن تنتمي لهذا المثلث المجهول ؟ عليها أن تركب قطارا في كل مرة يطوح بها في جهة من جهات الأرض. هنا حيث طوح بها القطار هذه المرة كان البيت كبيرا، ومترامي الأطراف، يكتنفه كثير من الغموض، نساء كثيرات يجتمعن في الصالة الكبرى. ترص كؤوس الكريستال، وصحون البقول، والأباريق النحاسية، لم يكن بهذا البيت عدا رجل واحد. ستعرف فيما بعد أنه أخ صاحبة البيت خدوجة . كانت لعبة القصب هي التي تشغلها عن التفكير في هؤلاء النسوة، وعن ما كان يلح عليها من حين لآخر : لماذا كن يغلقن عليهن باب القاعة الكبرى ؟.. و ماذا في الأباريق النحاسية ؟.. ولماذا يقهقهن عاليا ؟.. وما الحفلات السريةspan style="font-size: 18pt; mso-bidi-font-family: Traditional Arabic;" dir