تتناول فطورها، كمن يملأ ثغره بعجين التراب، لقد ساقها الحلم باتجاه الماضي، باتجاه غرفة ضيقة بالطابق السفلي، يتناثر عليها أثاث رث، لا يحجب تراب أرضها الرمادي الخشن بساط، أوحصير. كان كل شيء صدئا، ويوحي بفقر مريع. عشرون عاما، ما تزال الغرفة الضيقة الشاحبة تربض في خلايا الذاكرة جدران مخدوشة كظهر سمكة عجوز
مع بداية كل المساءات، تستحوذ برودة جافة، وتسمع أصواتا كالصفير المخيف. وتري كائنات صغيرة تعبر أرض الغرفة الرمادية، ترتجف، وتعلووجهها صفرة فاقعة. تضم يديها الصغيرتين إلي صدرها، وتجمع ساقيها. تهدئ حليمة من روعها: لا تخافي هذه عصافير. من يومها اكتسبت العصافير مخالب
اسكتي وإلا أعطيناك للغول تسترجع ما بقي من نفسها في هذه الأمكنة. لم تكن العصافير عدا فئران، ولم يكن الغول سوي امرأة. تسكن في الغرفة المقابلة عندما يشتد بكاء نجمة ويتعالي صراخها، ترتدي تلك المرأة شوالا وتلبس يديها خفين تضعهما فوق رأسها وتقصدها محدثة ذلك الصفير المخيف. - لم كانت تبكي وهي في الخامسة، كل ذلك البكاء المتواصل؟ حتي اليوم يبدولها ذلك غامضا، وكأنما قدرها أن تبكي وكفي. كانت تري الغول فعلا. تراه وظله الذي يعكسه ضوء الفتيل الزيتي علي الجدار المتآكل. تضع رأسها في صدر حليمة وتنام محشوة بالرعب. وقد نفذت برودة إلي كل عظامها. حتي اليوم لا تعرف أبدا لماذا أعطتها أمها لحليمة وهي في عامها الثاني هل يولد بعض الأطفال بإدانة ما؟؟ هل شيء "ما" يسم وجوههم الصغيرة فيخشاهم الكبار؟... كل ما تذكره أنه كان بوجهها صفرة فوسفورية لا تنطفئ، ونظرة جد منكسرة. تأتي بها حليمة أحيانا إلي بيت درب السلطان. كانت الوجوه هنا في هذا البيت غير وجوه بيت حليمة، تلك الوجوه الرمادية والمستطيلة. الأثاث هنا باذخ غير ذلك الأثاث الرث. هنا لا يوجد صفير الغول الذي يبدأ مع المساء. هنا مذياع "ماركة ريلا" موسيقي وألحان. لم يكن أيضا الفتيل الزيتي الذي يعكس علي الجدار المتآكل هيئة الغول. هنا المصباح الكهربائي. أي شيء يجعلها تستوحش هذا البيت؟.. كانت تريد أن تردها حليمة علي عجل إلي الغرفة ذات الجدران المقشرة، إلي ظهر السمكة العجوز.
هل هي في حاجة إلي الغول، الذي يأتي به الليل؟ كأنها جزء من هذا الرعب..! تحب الانتماء إليه؟ لقد أدركت الآن، أن تلك الغرفة القذرة والضيقة ومع ما تحفره في داخلها من خوف، كانت أفضل من نعيم لا تحس بالانتماء إليه.. أني لهم أن يحبوا !.. انقطعت السكينة لأنك حاولت أن تتذكري يا نجمة طفلة غريبة الأطوار، ذات الطباع التي لا تأتلف مع طباع ذلك البيت الفرح..!! تذكر أن سيدة هذا البيت احتضنتها في غياب حليمة مرة، ألصقتها بصدرها وقالت لها: أنت ابنتي أنا، لست ابنة حليمة جزعت نجمة، وظلت تنتحب إلي أن جاءت حليمة وأخذتها معها. من المسئول عن يباس ما بينها وبين أمها؟ هناك في غرفة حليمة كان المساء يتقدم بجيوشه المخيفة والقاتلة. غير أنها إذ تلوذ بصدر حليمة تحس أن صدر حليمة قادر علي أن يهزم كل تلك الجيوش، فتنام في صدرها. وهنا، هنا معزولة، تقارع الوحدة، والخوف. كانت في الصباح. في تلك الغرفة الرمادية والجرداء تصنع لها حليمة عروسة القصب وتؤثث لها عالما من الوهم ، فتستأنس به. وفي الليل أوعند بدء المساء تركب ظهر حليمة فتغني لها: نيني يا مومو نيني حتي يطيب عشانا ولا ما طاب عشانا يطيب عشا جيرانا لقد رأت ضوءا باهتا، ورأت الغول يمد يده إليها، برغم أن صفير الغول كان يرتفع مرة مرة، غير أن نشيد حليمة الليلي كان يقهره. اعتادت علي هذه الضفيرة الليلية: صفير الغول والنشيد الشجي فجأة اقتلعوها من حليمة. لا تعرف السبب. سيقت إلي بيت آخر، إلي أم ثالثة. إلي أم اسمها خدوجة ، إلي مدينة نائية. مع الليل يأتي سعال متواصل، فكانت ترغم علي شرب ملعقتي زيت زيتون، بها قطرات من زيت قطران كل ليلة للعلاج. استمر ذلك أسابيع أوأياما. لا تتذكر الآن بالتحديد. فقط ما تذكره هومرارة الدواء. فجأة نسيت المرض. نسيت كل شيء لقد جاء والدها لزيارتها صحبة أخيها فجرت نحوهما، وتعلق جسدها الصغير بصدر والدها، فحملها إلي صدره، وعانقها، ثم نزلت عن صدره لتعانق أخاها، وليرافقا الوالد إلي صالة الضيوف. فتح الوالد حقيبته، وأخرج لها ما أحضره لها من ملابس وحلوي، وهي تتفرج علي ما أحضره لها والدها، كانت مرة ترفع عينيها إلي المتحلقين حولهم، وتحديدا تتجرأ علي أن تنظر في عيني خدوجة كمن يتحدي، لقد تلاشي الآن خوفها، نسيت دمية القصب، وانخرطت مع أخيها في لعبته، حيث حفرا معا في تربة البهوالخارجي، وزرعا به حبات قمح، وبدآ يسقيانها من حين لآخر. ناظرين إلي التربة كل حين، ينتظران أن تطلع سنابل القمح التي زرعاها هذه الظهيرة. هذه البهجة لم تدم، إذ نودي علي الأخ. لقد حانت ساعة الرحيل عنها. لم تخلف جراحات كل مساءات طفولتها جرحا أعمق من جرح هذا المساء. تجري وحدها في أرض خلاء. في هذه المدينة النائية. هناك كان المساء يتقدم بجيوشه المخيفة، والقاتلة.غير أنها إذ تلوذ بصدر حليمة تحس أن صدرها قادر علي أن يهزم كل جيوش الليل فتنام، هنا في هذه القلعة الباذخة السرية والممتنعة، كانت تحس