لقد ماتت أسمهان صاحبة الصوت الحالم المغرد يوم 14 يوليو عام 1944 قبل أن تنتهي من تصوير فيلم "غرام وانتقام "، وعمرها لم يتجاوز الثالثة والثلاثين، ماتت في عز شبابها في حادث غامض، وانتشرت الإشاعات، بأن المخابرات الإنجليزية هي التي قتلتها لتعاونها مع المخابرات الألمانية، ومن يقول إن المخابرات الألمانية هي التي قتلتها فبعد تجنيدها لصالحهم؛ أكتشفوا أنها خدعتهم وكانت تتعاون مع القوات الإنجليزية أيضا، وانتشرت إشاعة أكثر اتساعا؛ خاصة لدي العامة، بأن أم كلثوم هي التي قتلتها، لأنها لم تستطع احتمال منافسة صوت بقوة وجمال صوت أسمهان. ولا أستطيع أن أنسى، الرجل القصير المسن الذي كان يحمل راديو ومسجل كبير في الترام الذاهب للنزهة في يوم عيد، وهو يستمع لأغنية من أغنيات مطربة الإسكندرية المشهورة بدرية السيد: من فوق شواشي الدرة جمرية بتغني فرحانة يا هلترى والا بتتمني والا دي حنية في القلب متوية أحكي يا جمرية فاقتربتُ أنا وأصدقائي منه، فأحس بالسعادة لأنه لفت نظرنا بمسجله وبأغاني بدرية السيد قائلا في أسى:- بس ربنا يعمي أم كلثوم عنها، وما تقتلهاش زي ما قتلت أسمهان. ذلك ما كان يردده الناس البسطاء: أم كلثوم موتت أسمهان لأنها تفوقت عليها بصوتها. المهم أن اسمهان ماتت في عز شبابها، وظهرت بعد سنوات قليلة مجموعة من الأصوات المشابهة لصوتها فرضتْ نفسها على مستمعيها، " أصوات - على رأي عمار الشريعي - تشفط " الهواء حولها، ولا يجعلك تشرد في شيء سواها. أصوت تجمع بين البهجة والحزن معاً، وذلك الحزن – خاصة - سمة تصاحب أصحاب هذه الأصوات وترافقهم إلى أن يموتوا. سبحان الله، ماتت هذه الأصوات في سن مبكرة، وفي حوادث غير عادية مثلما ماتت أسمهان، ما هو السر في ذلك؟! لقد كتبتُ من قبل عن دكتورة متخصصة، تحدثتْ في برنامج تلفزيوني فذكرتْ أن للأماكن تأثير على ساكنيها. فقد تُسبب قطعة أرض - مقام عليها عمارة – الأمراض لكل ساكني العمارة. وفي الريف والأحياء الشعبية يتحدثون كثيرا عن هذا، فيقولون: " إن هذا البيت عتبته (حلوة) "، بمعني أن ساكنيه قد اغتنوا بعد السكن فيه، وآخر عتبته (وحشة)، بمعنى أن ساكنيه حدث لهم مكروه بعد أن انتقلوا إلى هذا المسكن الجديد. وأعرف دكاكين كلما استأجرها مؤجر يفشل في تجارته، حتي أٌغلقت وخاف الناس من الإقتراب منها أو استئجارها. وكتبتُ عما ذكره أبو الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب " الأغاني " عن إبراهيم بن المهدي الذي أرجع سوء حظه، وما لاقاه من مآسي إلى اسمه إبراهيم، حتى قال: - وما رأيتُ والله أحداً بهذا الاسم إلا قُتل أو نُكب، أو رأيتهُ مضروباً أو مقذوفاً أو مظلوماً هل يمكن أن تكون طبيعة الأصوات، مثل الأماكن والأسماء، سبباً في إسعاد أو شقاء أصحابها؟ لقد ألحت أسمهان على يوسف وهبي ممثل ومخرج فيلم "غرام وانتقام" بأن تأخذ إجازة قصيرة، لتستحم في مياه رأس البر، واضطر أن يوافقها، رغم حاجته للوقت لينتهي من تصوير فيلمه، وماتت في سيارتها في الريّاح التوفيقي ما بين ميت غمر وأجا - وهي في طريقها لرأس البر- ماتت ولم تشهد الفيلم ولم تكمل تصويره. المطربة جيهان كان من المقرر أن تقف أسمهان أمام المحققين- في آخر الفيلم - وتشهد لصالح يوسف وهبي الذي ذهبتْ إليه لتنتقم منه لقتله حبيبها؛ فأحبته، ويتزوجها يوسف وهبي وينتهي الفيلم نهاية سعيدة – كالعادة - ؛ فبحثوا عن فتاة تشبهها في الشكل والصوت، ووجدوا الفتاة " سارة أحمد مسعود "، وهي من أصل تركي حباها الله برقة وبصوت ملائكي قريب الشبه بصوت أسمهان، وكانت قد قدمت برنامج "عذراء الربيع" واختاروا لها اسم "جيهان" فظهرتْ فى فيلم غرام وانتقام من تصوير خلفى وجانبي، وهى تحكي للمحققين عن حادث مقتل أنور وجدى وعدة مشاهد ربط أخرى تم تصويرها من الخلف أو من بعيد أيضاً. وقد وضح في الفيلم أنها أقل حجماً وطولا من أسمهان، وحذف يوسف وهبي الجزء الباقي الذي كان مقرراً أن تترافع فيه أسمهان أمام المحكمة، وينتهى الفيلم نهاية سعيدة، وفضل أن ينهيه، وقد جن بسبب موتها، وقضى باقي عمره في مستشفى المجانين. فقد كان يوسف وهبي مغرماً بتصوير أدوار الجنون. واشتهرت "جيهان" بأغنية " هيا إلى المروج " من تلحين محمود الشريف. وقامت بالبطولة الثانية في فيلم "السجينة رقم 17 " من إنتاج ماري كويني في أغسطس 1949. لكن سوء حظ الأصوات المشابهة لصوت أسمهان؛ طاردها في عنف فقد اختارها الأستاذان حافظ عبدالوهاب وعبدالوهاب يوسف لبطولة برنامج غنائي اسمه " غروب " من تلحين أحمد عبد القادر، فذهبت إلى التسجيل وهي مريضة، فعاندت نفسها وأصرت على التسجيل وربما أخفت حقيقة مرضها للعاملين معها في البرنامج، ذهبت لكي تسجل البرنامج ودرجة حرارتها فوق الأربعين، ولما دخلت الأستوديو في شارع علوي كان الأستوديو مزدحماً بالممثلين وأفراد الكورس، فضلاً عن فرقة التخت الشرقي، كان يغني معها كارم محمود. واندمجت في العمل، فظلت واقفة من التاسعة صباحاً حتى العاشرة مساءً والحمى تسري في عروقها، وبعد انتهاء التسجيل نُقلت بعربة الأسعاف إلى المستشفى ورحلت في السابع من سبتمبر عام 1949 وكان هذا البرنامج؛ غروب حياتها أيضا، وسبب موتها ولم تستمع إليه. المطربة نادية فهمي كنتُ في طفولتي مولعاً بمتابعة الأفراح التي تقام في شوارع وحواري حينا، فأقف لمتابعتها للصباح، حيث لم يكن يُسمح للأطفال بالجلوس على المقاعد في هذه الأفراح. فاسمع أغنية تغنيها النساء في كل الأفراح تقريباً: عرفت كتير ما حيرنيش ** غيرك أنت وغلبني أبوس النار ما تحرقنيش ** أبوس خدك يلهلبني لم أكن قد سمعت هذه الأغنية في الراديو من قبل، واكتشفتُ أن الممثلة هند رستم قد غنتها في أحد الأفلام. ثم اكتشفت أن المغنية الحقيقية للأغنية هي " ثريا عبدالعزيز فايد " التي اشتهرت باسم "نادية فهمي". وغنت مع فريد الأطرش في أغنية " قسمة مكتوبة " بدلا من مريم فخر الدين التي كانت ترقص معه، وتغني بشفتيها فقط، في فيلم " رسالة غرام ". وغنت مع فريد الأطرش أيضاً أغنية " أنا وأنت وبس " صوت نادية فهمي، صوت مغرد قريب الشبه بصوت أسمهان. وقد غنت مع عبدالحليم حافظ أغنيتين هما " الفجر بدا " من كلمات مرسي جميل عزيز ومن تلحين محمود الشريف و" أنت حبي" كلمات محمد جلال الدين وألحان عبد الحميد توفيق زكي، مما جعل الأستاذ محمد التابعي - الذي كان مجنوناً بحب أسمهان-يكتب في أخبار اليوم مرشحاً نادية فهمي لبطولة الفيلم الذي سينتج عن حياتها. لكن سوء حظ أسمهان وشبيهاتها في صوتها؛ طارد نادية فهمي أيضا ففي مايو 1959 قامت برحلة فنية للترفيه عن الجيش في منطقة فايد القريبة من الإسماعلية، حملت سيارة الجيش الفنانين محمد رشدي ونادية فهمي والراقصة سلوى المسيري ونجوم برنامج ساعة لقلبك والفرقة الموسيقية التي رافقتهم في إحياء الحفل. وفي الطريق، طلبت نادية فهمي من المطرب محمد رشدي أن يغير مكانه معها لتستطيع أن تنام، وتم التغيير بالفعل، وإذ بعربة لوري محملة بأنابيب البوتجاز تصطدم مع سيارة الجيش، فتبتر ساق نادية فهمي وتموت على الفور هي والراقصة سلوى المسيري، وتكسر ساق محمد رشدي ويظل في العلاج لمدة عامين تقريباً. المطربة نازك صوت آخر يشبه إلى حد كبير صوت أسمهان، جاءت هذه المرة من لبنان، هي "هيبت محمد الحسيني" ينتهي نسبها إلى أهل بيت النبي عليه الصلاة والسلام. واشتهرت باسم " نازك "، غنت أغاني كثيرة من تلحين كبار الملحنين، فغنت لفريد الأطرش "ما تقولش كنا وكان"، وغنت لمحمد فوزي " كل دقة في قلبي بتسلم عليك " . ومن شدة نجاح الأغنية، تم تصوير فيلم على اسمها لمحمد فوزي وسامية جمال، واشتركت نازك في بطولته، وغنت مع محمد فوزي أغنية عن الأم أيضا. ولحن لها رياض السنباطي ومحمود الشريف وأحمد صدقي، وغيرهم، وغنت في حفلات على مستوى البلاد العربية؛ أغاني أم كلثوم. لكن لعنة صوت شبيهات أسمهان طاردتها أيضا، فقد سافرت إلى لبنان، واستشهدت في الحرب الأهلية هناك.