لم ينجُ المثقفون من الصراع السياسي المشتعل بين التيارات الإسلامية والتيارات الأخرى المناهضة للحكم الاسلامي في مصر ، فانقسموا بين ما أسموه "مثقفًا إسلاميًّا" أي أنه تابع لتيار الإسلام السياسي، ومثقفًا ليبراليًّا يهاجم سطوة المثقفين من التيار الإسلامي، وبذلك تتأثر أنواع الثقافة والفنون بتلك الصراعات الموجودة على الساحة السياسية، فراح هذا يكتب ديوانًا مناهضًا للتيارات الإسلامية، وراح الآخر يلقي بظلال نقده على رائدي تلك التيار المتحرر المبتعد عن الإسلام. وفي ندوة عن "المثقفين والصراع السياسي"، قال الناقد د. صلاح فضل: إنه ربما يكون في منطقتنا العربية الموروث الثقافي والديني أكثر تعمق لظهور الأديان السماوية الثلاثة في بيئتنا العربية، وكل ما يحيط بها من شبكة حضارية تصب في هذا الموروث الروحي.. كما ورثنا أيضًا الميراث الفني الذي يتصل بكل ما يبدعه الإنسان في حياته من رسم وتصوير ونحت وموسيقى وغناء، والموروثات الشعبية، كل هذا الميراث الفني العريق هو الذي يعادل في أهميته ويمثل جزءًا أساسيًا من شخصية أي شعب من الشعوب، ولكن هذا كان يتطلب أن يكون لدى المتلقي الذوق الرفيع لكي يظهر الإبداع، هذان البعدان الثقافيان يشترك فيه كل الناس والبعض ينغمز فيهما دون أن يشعر. وأضاف: هناك بعدان متجددان نضيفهم إلى التراث الثقافي دائمًا، وهما البعد العلمي والمعرفي؛ لأن العلوم بطبيعتها تتطور، ففي العصور الماضية كانت الفلسفة تعلو على كل العلوم، أما في عصرنا الحالي فقد تخلت عن دورها وحلت محلها العلوم التجريبية وأهمها علم الحياة؛ لأن العلوم التجريبية أصبحت بُعْدًا أساسيًّا في الثقافة الحالية التي تسهل حياتنا وتمكنا من السيطرة. كما توجد إبداعات متصلة بالفنون والكمبيوتر، فكل هذا التجديد في بيئة الثقافة يعرفه كل من يعيش في بيئة معينة، فلا أحد يستطيع أن يستغني عن التليفزيون الذي ينقل له كل ما هو ثقافي. وأشار د. فضل إلى أن الجمع بين ما هو موروث ومتجدد هو الذي يضمن سلامة وهوية الأمة، وأن أي محاولة لاختزال هذا المركب الثقافي يصيب أي ثقافة بالضمور والتدهور، من هنا كان القلق عن مصير الثقافة العربية؛ نظرًا للتطورات السياسية الراهنة. وأوضح أن خلاصة التطورات السياسية الراهنة خلال العامين الماضيين أننا ننتقل من عصور الاستبداد والطغيان إلى فكر الديمقراطية، في حين أن ثقافة الديمقراطية عندنا لم تتأصل فينا بعد، ومن أهم عنصر فيها هو قبول التعدد والاختلاف، وعدم سعي أي طرف على فرض آرائه ومبادئه على الفرد الآخر، إضافة إلى التعايش السلمي وفرائض الحرية الإنساني، لذلك أي تيار سياسي يحاول استغلال الديمقراطية والقفز بها على التحول الديمقراطي، وهو ما يسمى بالانتهاز السياسي يكون قد خرج من السباق وخرج على قواعده ولا يكتب له الاستمرار. وتساءل فضل: هل نحن مقبلون كما يتوهم الكثير على ردة ثقافية؟ بينما كانت فنوننا تبشر بشيء من الازدهار وتتنفس في هامش من الحرية، موضحًا أن كافة الشعوب في سعيها للتقدم تعتمد على معايير ثابتة ومقياس لتقدم الإنسان الذي ينطبق علينا مثل الشعوب، منها التمسك بالحريات بكل أشكالها منها السياسية، فلا يستبد فصيل يحاول دون تداول السلطة سلميًّا، والحرية الاقتصادية وهي محكومة بشرط جوهري بخبرات الشعوب، وهي مشروطة بالعدالة الاجتماعية ومحاربة التوحش الرأسمالي، الذي يوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وكذلك الحريات الثقافية والسياسية والاجتماعية، كل هذه المعايير هي مؤشر التقدم، وأن أية محاولة لقص جناح الحرية تحت أية ذريعة هي ضرب للمكاسب الإنسانية وتقدم الشعوب. وأضاف "لا أعرف لماذا أجد بعض المتأسلمين اليوم ممن يتخذون الدين للتجارة السياسية يقفون ضد المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، أقول لهم لن يستطيع أي إنسان أن يفرض علينا شيئًا لا يتوافق معنا، كما شدد على أنه لابد وأن ينبذ المجتمع دعاة الفرقة بين المسلم والمسيحي"، مشيرًا إلى أنه لا يعرف كيف خرج هؤلاء على المجتمع بدعوات متخلفة وتعتبر عارًا على تاريخ مصر، فينبغي أن نبرأ ممن يقولها، مستنكرًا من يقول: إن إلقاء التحية على المسيحيين حرام، ومطالبًا بإلقاء مثل هذه الدعوات في القمامة؛ لأنها تخالف موروث شعب عريق يرسخ للتعايش. وأوضح فضل أن التحول من الجهل إلى العلم يعني أنه كلما تقلصت في حياة الشعوب مساحات العقائد الروحية مثل: الإيمان بالسحر، والخرافات، وكل العقائد القديمة التي كان الإنسان يميل إليها قديمًا لتفسير ظواهر الطبيعة، فكلما ظهرت تفسيرات حضارية تتسق مع جوهر الدين كلما كانت المجتمعات أكثر تقدمًا. الوسطية المعتدلة بينما أكد د.حسام عقل مدرس النقد الأدبي، بجامعة عين شمس، أنه يختلف مع بعض ما يطرحه د. صلاح فضل، وقال: إن الوطن المصري يمر بمرحلة محتقنة، حيث تصور الكثيرون أن المشكلة تكمن في إزاحة الطاغية واكتشفنا بعدها أننا دخلنا في الاختبار الثاني وهو تعايش الفرقاء. وتساءل هل يمكن لهذا الثالوث اليساري والليبرالي والإسلامي أن يجلسوا إلى طاولة واحدة ويصنعوا عقدًا اجتماعيًّا جديدًا؟ خاصة وأننا نحتاج كل واحد منهم، فاليساري نحتاجه من أجل العدالة الاجتماعية، أما الليبرالي فنحتاج منه الحريات المدنية، أما الإسلامي فنريد منه الوسطية المعتدلة لعمل المنظومة الوطنية. فهل يمكن أن نصنع ذلك من خلال حوار خلاق؟ هذا هو الاختبار الذي علينا أن نجتازه. ووصف عقل ما يحدث في مصر الآن بين التيارات الإسلامية والتيار الآخر بالشيطانية، حيث يتحدث الإسلاميون على الآخرين بمنطق الإلحاد والكفر، والآخرون يتكلمون على الإسلاميين أنهم خارجون على العصر والوقت، وهذا ما يعانيه الوطن المصري، ولذلك مهمة المثقفين إعادة مصر كوطن واحد للجميع. وأضاف عقل أن الليبرالية الحالية ليست كالليبرالية التي كانت في مطلع القرن الماضي بل أصبحت أكثر تسطيحًا، متحدثًا عن ليبرالية محمد حسنين هيكل التي كانت ناطقة بالنضج، واستشهد بالمقالة الشديدة التي كتبها هيكل حول فساد القصر وعندما طلب النقراشي باشا وقتها منه الاعتذار، رفض هيكل وقال: تذكر أني أتحدث عن صاحبة الجلالة قاصدًا الصحافة وهذه هي الليبرالية الحق. فالليبرالية التي جعلت العقاد يدفع 9 أشهر من حياته في السجن لرفضه أن تسحق القوانين، وكذلك ليبرالية سعد زغلول الذي استطاع أن يخوض الانتخابات وهو يضمن الرصيد الشعبي، لم تعد موجودة، فالليبرالية الآن استطاع مبارك أن يستثمرها وكان المثقفون جزءًا من هذا المشهد، وقبل رحيل مبارك عقد لقاء مع 13 مثقفًا وخرج أحدهم بعنوان "إنسانية رجال الرئيس"، ولم يكن دم خالد سعيد قد جف بعد. وأكد عقل أن وظيفة المثقفين هي صناعة عقد اجتماعي جديد من خلال تبصير الناس، بمعنى الحرية وتجلياتها السياسية والحياتية . وقال عقل: إن استنساخ تجارب اليسار العنيف لمصر أمر مرفوض يهدد أمن مصر، مؤكدًا على أن تجربة "البلاك بلوك" هي استنساخ للغلو والتزمت وعلينا أن نرفضه. وكشف عن أنه بعد حوار دار بينه وبين عصام العريان ومع أبو العز الحريري وقيادات حزب الغد، وجد أن العيب يكاد يكون قاسمًا مشتركًا بين الثلاث ومشتركين في إغراق مصر بسبب دخولهم في تنظير سياسي شديد الخطورة. وأكد أن الأفكار التي تظهر لبعض المنتمين للتيار الإسلامي، وقد تكون صادمة يمكن حلها بالحوار، وقال: "كان لي تجربة في الحوار مع بعضهم، فبعد الثورة بعض الشباب قاموا بتغطية التماثيل في الإسكندرية بناء على فتوى بتحريمها من أحد الدعاة الإسلاميين، وبدأت الأجواء تتكهرب، ووجدت النخبة المثقفة أضعف من أن تعالج الموقف، فخاطبت صاحب فتوى التحريم ودار حوار بيننا لمدة نصف ساعة، وقلت له: من سيسمع الفتوى من الممكن أن يتجه ليهدم أبو الهول في حين أن عمرو بن العاص عندما جاء مصر لم يمس أي شيء له علاقة بالفراعنة، وبالفعل بعد حواري معه، أصدر فتوى أخرى بأن التماثيل في مصر ليست شركًا بل تراثًا.. وهكذا تمكنت من حل المشكلة بالحوار وليس بالاتهامات المتبادلة. كما أوضح عقل أن أزمة الدعوات المتزمتة التي تعارض الإسلام الصحيح الذي تربى عليه في كتب محمود شلتوت على سبيل المثال، هي أن الأزهر لم يعد لدوره منذ الستينيات.. إذن، لا تكمن المشكلة في تقديري إلا في شيء واحد أنه حتى الآن لم يحدث حوار ولم يجلس الفرقاء على طاولة واحدة، ومع ذلك فأنا متفائل من أنهم سيجلسون على طاولة واحدة بعد أن دفع الكل الثمن. وتابع: عندما كنا في الميدان وقت الثورة لم يكن هناك لافتات أيديولوجية، وبدأ الفلول باللعب على التفرقة فلابد من قرع جرس الإنذار، إما التعايش أو الموت فإما نموذج تركيا أو لبنان.. ولكني متأكد من أن مصر قادرة على اجتياز كبوتها . وخلال رد المتناظرين على أسئلة الحضور انتقد الدكتور صلاح فضل، ما قاله الدكتور حسام عقل، حول فضح النخبة المثقفة قبل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة بلقاء الرئيس المخلوع "مبارك"، مؤكدًا أن عددًا ممن قابلوا "مبارك" عبروا عن اعتذارهم فيما بعد، لافتًا إلى أن عددًا كبيرًا من المثقفين هاجموا "مبارك"، وعارضوا على سبيل المثال قيام جامعة القاهرة بمنح زوجته سوزان مبارك شهادة الدكتوراه. ولذلك أنا أشفقت على الذين شاركوا في اللقاء، حيث كنت مدعوًا له واعتذرت عنه لأني أعلنت موقفي قبل ذلك، وأكد أنه ما زال يوجه للتيار الإسلامي نقدًا عنيفًا، مشيرًا إلى أنه ليس محسوبًا عليهم في هذه المرحلة، وأنه من أنصار المصالحة وإيقاف عملية الشيطنة، قائلًا: التيار الإسلامي كان أداؤه البرلماني مهلهلًا وضعيفًا، ولكن في المقابل أين مبادرات اليسار في تقديم الحلول؟. وأشار إلى وجود - الآن - مراجعات في التيار الإسلامي تستلزم بالمقابل أن يكون هناك مراجعات جذرية داخل التيار اليساري والليبرالي، وأن الخطاب الإعلامي في مصر دخل مرحلة الخطاب العنيف بدعم رءوس أموال وخاصة الفضائيات الخاصة، ويحتاج لإعادة نظر فيه.