الصراع السياسي على أشده بين مختلف التيارات في المجتمع المصري.. لكن أين المثقفون من هذا الصراع؟.. وهل يمكن أن يلعبوا دورا في لملمة أشلاء الوطن وهم نخبته وطليعته؟!. كان هذا هو موضوع المناظرة التي نظمها معرض الكتاب ضمن فعالياته تحت عنوان: "المثقفون والصراع السياسي"وشارك فيها د. صلاح فضل ود. حسام عقل. في بداية المناظرة قال الصحفي محمود شرف، المسؤول عن إدارة المناظرات الفكرية، أن د.عماد أبو غازي، وزير الثقافة الأسبق، اعتذر بسبب مشاركته في مظاهرات ميدان التحرير، كما اعتذر أيضا صلاح سلطان، لتبقى المناظرة بين الناقد د. صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة عين شمس، والناقد الأدبي حسام عقل، مدرس النقد الأدبي بنفس الكلية والجامعة. وقال الكاتب صلاح فضل ربما يكون في منطقتنا العربية الموروث الثقافي والديني أكثر تعمق لظهور الأديان السماوية الثلاثة في بيئتنا العربية وكل ما يحيط بها من شبكة حضارية تصب في هذا الموروث الروحي،كما ورثنا أيضا الميراث الفني الذي يتصل بكل ما يبدعه الإنسان في حياته من رسم وتصوير ونحت وموسيقى وغناء، والموروثات الشعبية، كل هذا الميراث الفني العريق هو الذي يعادل في أهميته ويمثل جزء أساسي من شخصية أي شعب من الشعوب، ولكن هذا كان يتطلب أن يكون لدى المتلقي الذوق الرفيع لكي يظهر الإبداع، هذان البعدان الثقافيان يشترك فيه كل الناس والبعض ينغمز فيهما دون أن يشعر. وأضاف: "هناك بعدان متجددان نضيفهم إلى التراث الثقافي دائما وهما البعد العلمي والمعرفي لأن العلوم بطبيعتها تتطور، ففي العصور الماضية كانت الفلسفة تعلو على كل العلوم، أما في عصرنا الحالي فقد تخلت عن دورها وحلت محلها العلوم التجريبية وأهمها علم الحياة، لأن العلوم التجريبية أصبحت بعد أساسي في الثقافة الحالية التي تسهل حياتنا وتمكنا من السيطرة". كما توجد إبداعات متصلة بالفنون والكمبيوتر فكل هذا التجديد في بيئة الثقافة يعرفه كل من يعيش في بيئة معينة فلا أحد يقدر يستغنى عن التليفزيون الذي ينقل له كل ما هو ثقافي. وأشار د. فضل، إلى أن الجمع بين ما هو موروث ومتجدد هو الذي يضمن سلامة وسوية الأمة، وأن أي محاولة لاختزال هذا المركب الثقافي يصيب أي ثقافة بالضمور والتدهور، من هنا كان القلق عن مصير الثقافة العربية نظرا للتطورات السياسية الراهنة. وأوضح أن خلاصة التطورات السياسية الراهنة خلال العامين الماضيين أننا ننتقل من عصور الاستبداد والطغيان إلى فكر الديمقراطية، في حين أن ثقافة الديمقراطية عندنا لم تتأصل فينا بعد، ومن أهم عنصر فيها هو قبول التعدد والاختلاف وعدم سعي أي طرف على فرض أرائه ومبادئه على الفرد الأخر، بالإضافة إلى التعايش السلمي وفرائض الحرية الإنساني، لذلك أي تيار سياسي يحاول استغلال الديمقراطية والقفز بها على التحول الديمقراطي، وهو ما يسمى بالانتهاز السياسي يكون قد خرج من السباق وخرج على قواعده ولا يكتب له الاستمرار. وتساءل فضل:" هل نحن مقبلون كما يتوهم الكثير على ردة ثقافية؟ بينما كانت فنوننا تبشر بشيء من الازدهار وتتنفس في هامش من الحرية"، موضحًا أن كافة الشعوب في سعيها للتقدم تعتمد على معايير ثابتة ومقياس لتقدم الإنسان الذي ينطبق علينا مثل الشعوب، منها التمسك بالحريات بكل أشكالها منها السياسية فلا يستبد فصيل يحاول دون تداول السلطة سلميا، والحرية الاقتصادية وهى محكومة بشرط جوهري بخبرات الشعوب، وهى مشروطة بالعدالة الاجتماعية ومحاربة التوحش الرأسمالي، الذي يوسع الهوة بين الفقراء والأغنياء، وكذلك الحريات الثقافية والسياسية والاجتماعية، كل هذه المعايير هي مؤشر التقدم، وأن أية محاولة لقص جناح الحرية تحت أية ذريعة هي ضرب للمكاسب الإنسانية وتقدم الشعوب. ويرى د. فضل أن البعض يستخدم القياس الكمي لقياس مدى تقدم المجتمع، حيث يقيس استهلاكهم للكهرباء أو المياه لكن في تقديري أن الذي ينبغي أن يقاس به التقدم هو هامش الحرية، وأي محاولة لقص الحرية هو إيقاف لعجلة التقدم نحو المستقبل. وأكد د.فضل أن البشر كلما ضاقت عليهم بلادهم، أصابهم بالضرورة قدر من التعصب، ورأوا شعوبا أخرى تعيش حريتها ومستقبلها، ويتسع أفقها، فيتمسكون بالنزعة الإنسانية، ليطالب بحقوقه المشروعة. وعن المواثيق البشرية أي وثائق حقوق الإنسان والمرأة والطفل قال فضل أنه كان سعيد عندما قرأ كتاب في صغره في علم الاجتماع بعنوان "حقوق الإنسان في الإسلام"، ومن وقتها علمت أن المبادئ الأساسية التي انتهت لها المواثيق البشرية موجودة في الإسلام ولكن يفهمها المستنيرين وليس المتعصبين. وأضاف فضل "لا أعرف لماذا أجد بعض المتأسلمين اليوم ممن يتخذون الدين للتجارة السياسية يقفون ضد المواثيق العالمية لحقوق الإنسان، أقول لهم لن يستطيع أي إنسان أن يفرض علينا شيئا لا يتوافق معنا، كما شدد على أنه لابد وأن ينبذ المجتمع دعاة الفرقة بين المسلم والمسيحي، مشيرا إلى أنه لا يعرف كيف خرج هؤلاء على المجتمع بدعوات متخلفة وتعتبر عار على تاريخ مصر فينبغي أن نبرأ ممن يقولها، مستنكرا من يقول أن إلقاء التحية على المسيحيين حرام، ومطالبا بإلقاء مثل هذه الدعوات في القمامة لأنها تخالف موروث شعب عريق يرسخ للتعايش. وأوضح فضل أن التحول من الجهل إلى العلم يعني أنه كلما تقلصت في حياة الشعوب مساحات العقائد الروحية مثل الإيمان بالسحر والخرافات وكل العقائد القديمة التي كان الإنسان يميل إليها قديما لتفسير ظواهر الطبيعة فكلما ظهرت تفسيرات حضارية تتسق مع جوهر الدين كلما كانت المجتمعات أكثر تقدما، داعيا إلى ضرورة محاربة الخرافات والخلط بين الدين الحق المستنير والمعتقدات الجاهلة في العصور الوسطى القديمة. ودعا فضل الأحزاب إلى أن تبلور مشروعات حقيقية لتتطور مصر بدل من مداعبة عواطف الشعب الدينية، فلابد من النهوض بمصر ليعم الرخاء ويزيد الإنتاج وتغطي الخدمة الصحية كل الطبقات، وإلى ضرورة أن يكون طعامنا من إنتاجنا وان يتقدم التعليم لدينا ، وذلك بمواجهة تحديات العصر بعقل علمي وقدرة على الإبداع لأن غير ذلك لن يحدث شيء. وأكد فضل أن مشكلة الدستور أيضا هي سبب من أسباب الاضطرابات التي تشهدها الآن، قائلا :حاولنا وضع معايير للجمعية لكن حزب الحرية والعدالة رفض، وبعد مضي شهرين اتضح أن غياب المثقفين والقانونيين قد أثر على الجمعية فشكلوا لجنة استشارية وكنت عضو فيها وعندما انتهينا من تقريرنا بضرورة تعديل 66 مادة من الدستور عرضناه على المستشار حسام الغرياني لعرضها على الجمعية، فطلب منا أن نترك الأوراق، فقلنا أننا لابد أن نعرضها على الجمعية لتوضيح وجهة نظرنا في تعديل كل مادة، فرد علينا قائلا: الوقت ضيق .. وتم إخراج الدستور على عجل وبه ثغرات تفتح أبواب جهنم، رغم أن الدستور كان من الممكن أن يخرج مرضيا للجميع لو كان هناك قليل من التريث. بينما أكد د. حسام عقل مدرس النقد الأدبي، بكلية الآداب بجامعة عين شمس، انه يختلف مع بعض ما يطرحه الدكتور صلاح فضل. وقال إن الوطن المصري يمر بمرحلة محتقنة، حيث تصور الكثيرون أن المشكلة تكمن في إزاحة الطاغية واكتشفنا بعدها أننا دخلنا في الاختبار الثاني وهو تعايش الفرقاء. وتساءل:" هل يمكن لهذا الثالوث اليساري والليبرالي والإسلامي أن يجلسوا إلى طاولة واحدة ويصنعوا عقد اجتماعي جديد؟، خاصة وأننا نحتاج كل واحد منهم فاليساري نحتاجه من اجل العدالة الاجتماعية أما الليبرالي فنحتاج منه الحريات المدنية أما الإسلامي فنريد منه الوسطية المعتدلة لعمل المنظومة الوطنية .. هل يمكن أن نصنع ذلك من خلال حوار خلاق؟، هذا هو الاختبار الذي علينا أن نجتازه". ووصف عقل ما يحدث في مصر الآن بين التيارات الإسلامية والتيار الأخر بالشيطانية حيث يتحدث الإسلاميين على الآخرين بمنطق الإلحاد والكفر والآخرين يتكلمون على الإسلاميين أنهم خارجين على العصر والوقت، وهذا ما يعانيه الوطن المصري ولذلك مهمة المثقفين إعادة مصر كوطن واحدا للجميع. وأضاف عقل أن الليبرالية الحالية ليست كالليبرالية التي كانت في مطلع القرن الماضي بل أصبحت أكثر تسطيح ، متحدثا عن ليبرالية محمد حسنين هيكل التي كانت ناطقة بالنضج واستشهد بالمقالة الشديدة التي كتبها هيكل حول فساد القصر وعندما طلب النقراشي باشا وقتها منه الاعتذار ، رفض هيكل وقال تذكر أني أتحدث عن صاحبة الجلالة قاصدا الصحافة وهذه هي الليبرالية الحق. فالليبرالية التي جعلت العقاد يدفع 9 شهور من حياته في السجن لرفضه أن تسحق القوانين وكذلك ليبرالية سعد زغلول الذي استطاع أن يخوض الانتخابات وهو يضمن الرصيد الشعبي، لم تعد موجودة، فالليبرالية الآن استطاع مبارك أن يستثمرها وكان المثقفون جزء من هذا المشهد وقبل رحيل مبارك عقد لقاء مع 13 مثقف وخرج أحدهم بعنوان "إنسانية رجال الرئيس" ولم يكن دم خالد سعيد قد جف بعد . وأكد عقل أن وظيفة المثقفين هي صناعة عقد اجتماعي جديد من خلال تبصير الناس بمعني الحرية وتجلياتها السياسية والحياتية . وقال عقل إن استنساخ تجارب اليسار العنيف لمصر، أمر مرفوض يهدد أمن مصر، مؤكدًا على أن تجربة "البلاك بلوك" هي استنساخ للغلو والتزمت وعلينا أن نرفضه. وكشف عقل عن أنه بعد حوار دار بينه وبين عصام العريان ومع أبو العز الحريري وقيادات حزب الغد، وجد أن العيب يكاد يكون قاسم مشترك بين الثلاث ومشتركين في إغراق مصر بسبب دخولهم في تنظير سياسي شديد الخطورة. وأكد عقل أن الأفكار التي تظهر لبعض المنتمين للتيار الإسلامي وقد تكون صادمة يمكن حلها بالحوار وقال " كان لي تجربة في الحوار مع بعضهم فبعد الثورة بعض الشباب قاموا بتغطية التماثيل في الإسكندرية بناء على فتوى بتحريمها من احد الدعاة الإسلاميين، وبدأت الأجواء تتكهرب، ووجدت النخبة المثقفة أضعف من أن تعالج الموقف، فخاطبت صاحب فتوى التحريم ودار حوار بيننا لمدة نصف ساعة وقلت له من سيسمع الفتوى من الممكن أن يتجه ليهدم أبو الهول في حين أن عمرو بن العاص عندما جاء مصر لم يمس أي شيء له علاقة بالفراعنة، وبالفعل بعد حواري معه، أصدر فتوى أخرى بأن التماثيل في مصر ليست شرك بل تراث .. وهكذا تمكنت من حل المشكلة بالحوار وليس بالاتهامات المتبادلة. كما أوضح عقل أن أزمة الدعوات المتزمتة التي تعارض الإسلام الصحيح الذي تربى عليه في كتب محمود شلتوت على سبيل المثال هي أن الأزهر لم يعد لدوره منذ الستينات.. إذن لا تكمن المشكلة في تقديري إلا في شيء واحد انه حتى الآن لم يحدث حوار ولم يجلس الفرقاء على طاولة واحدة، ومع ذلك فأنا متفائل من أنهم سيجلسون على طاولة واحدة بعد أن دفع الكل الثمن. وتابع: عندما كنا في الميدان وقت الثورة لم يكن هناك لافتات أيدلوجية وبدأ الفلول باللعب على التفرقة فلابد من قرع جرس الإنذار، إما التعايش أو الموت فإما نموذج تركيا أو لبنان .. ولكني متأكد من أن مصر قادرة على اجتياز كبوتها . وخلال رد المتناظرين على أسئلة الحضور انتقد الدكتور صلاح فضل، ما قاله الدكتور حسام عقل، حول فضح النخبة المثقفة قبل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة بلقاء الرئيس المخلوع "مبارك"، مؤكدا أن عددًا ممن قابلوا "مبارك" عبروا عن اعتذارهم فيما بعد، لافتًا إلى أن عددًا كبيرًا من المثقفين هاجموا "مبارك"، وعارضوا على سبيل المثال قيام جامعة القاهرة بمنح زوجته سوزان مبارك شهادة الدكتوراه. ولذلك أنا أشفقت على الذين شاركوا في اللقاء، حيث كنت مدعوا له واعتذرت عنه لأني أعلنت موقفي قبل ذلك، ولكن لا أستطيع دمغ من حضره بالخيانة لان بعضهم تورط في اللقاء ولم يتمكن من الاعتذار. فيما أوضح د. حسام عقل خلال رده على الأسئلة أن كلامه عن وجود خلل بالتيار اليساري لا يعني أن التيار الإسلامي "عسل"، بل هناك افتقار لديهم في المعايير وأفق الحوار، وسبق أني قلت للدكتور عصام العريان أن الدكتور هشام قنديل ليس رجل المرحلة، كما دارت بيني وبين عبد المنعم الشحات معركة عندما تحدث عن نجيب محفوظ . وأكد أنه مازال يوجه للتيار الإسلامي نقد عنيف، مشيرا إلى أنه ليس محسوب عليهم في هذه المرحلة، وأنه من أنصار المصالحة وإيقاف عملية الشيطنة، قائلا: التيار الإسلامي كان أداءه البرلماني مهلهل وضعيف ولكن في المقابل أين مبادرات اليسار في تقديم الحلول. وأشار إلى وجود الآن مراجعات في التيار الإسلامي تستلزم بالمقابل أن يكون هناك مراجعات جذرية داخل التيار اليساري والليبرالي، وأن الخطاب الإعلامي في مصر دخل مرحلة الخطاب العنيف بدعم رؤوس أموال وخاصة الفضائيات الخاصة، ويحتاج لإعادة نظر فيه .