وزارة العدل تعلن عن وظائف قيادية شاغرة.. تعرف على الشروط وطريقة التقديم    بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق الشرقية الثلاثاء 13 مايو 2025    قفزة في صافي أرباح البنك التجاري الدولي خلال الربع الأول من العام الجاري    أسعار الدولار اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025    الأونروا: يجب رفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات للمحتاجين    تقرير إسرائيلي: الرهان على ضوء أخضر أمريكي لحرب واسعة بغزة ينهار    موقف الأهلي والزمالك، ترتيب الدوري المصري قبل الجولة السادسة بمجموعة التتويج    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 13 مايو 2025 والقنوات الناقلة    التربية والتعليم تعلن إتاحة أرقام جلوس الدبلومات الفنية ومقر اللجان    اليوم.. استكمال محاكمة متهمين في قضية داعش العمرانية    مصرع شخص وإصابة 5 في حادث انقلاب سيارة بوسط سيناء    وفاة سائق الجرار وانتظام حركة القطارات بعد تصادم مزلقان البحيرة- فيديو وصور    الحكم على 18 متهما بقتل مواطن في الجيزة اليوم    مواعيد عرض مسلسل أمي على قناة MBC1    صبحي خليل: تمنيت المشاركة في "الاختيار" وشاركت في أربع أعمال درامية في وقت واحد    حكم تسوية الصف في الصلاة للجالس على الكرسي.. دار الإفتاء توضح    الزيارة التاريخية.. 10 ملفات تتصدر أجندة مباحثات ترامب وقادة دول الخليج    تشكيل بيراميدز المتوقع أمام الزمالك في الدوري المصري    جرينلاند تتولى رئاسة مجلس القطب الشمالي نيابة عن الدنمارك    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط»    كان يتلقى علاجه.. استشهاد الصحفي حسن إصليح في قصف الاحتلال لمستشفى ناصر ب خان يونس    «الاقتصاد المنزلي» يعقد مؤتمره العلمي السنوي ب«نوعية المنوفية»    بيان هام من محامية بوسي شلبي بشأن اتهامات خوض الأعراض: إنذار قانوني    ترتيب هدافي الدوري المصري قبل مواجهات اليوم الثلاثاء    غيابات مؤثرة بصفوف الأهلي أمام سيراميكا كليوباترا في الدوري المصري    3 شهداء وإصابات جراء قصف الاحتلال خيمة نازحين في خان يونس    حكام مباريات اليوم في الدوري| "الغندور" للزمالك وبيراميدز و"بسيوني" للأهلي وسيراميكا    حبس عصابة «حمادة وتوتو» بالسيدة زينب    مستشفى سوهاج العام يوفر أحدث المناظير لعلاج حصوات المسالك البولية للأطفال    تفاصيل.. مؤتمر الاتحاد المصري لطلاب الصيدلة في نسخته الرابعة    رئيس شركة شمال القاهرة للكهرباء يفصل موظفين لاستغلال الوظيفة والتلاعب بالبيانات    «الاتصالات» تطلق برنامج التدريب الصيفي لطلاب الجامعات 2025    جولة تفقدية لمدير التأمين الصحي بالقليوبية على المنشآت الصحية ببهتيم    بعد اطمئنان السيسي.. من هو صنع الله إبراهيم؟    جدول امتحانات الشهادة الإعدادية بمحافظة المنيا للفصل الدراسي الثاني 2025    انفجار أسطوانة غاز السبب.. تفاصيل إصابة أم وطفليها في حريق منزل بكرداسة    كيف ردت سوريا على تصريحات ترامب بشأن رفع العقوبات؟    أبو زهرة يهنئ المنتخب الوطني للشباب تحت 20 عاما بعد فوزه المثير على غانا    علي صالح موسى: تجاوب عربي مع مقترح دعم خطة الاحتياجات التنموية في اليمن    ثبات سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن الثلاثاء 13 مايو 2025 (بداية التعاملات)    قناة السويس تجهز مفاجأة لشركات الشحن العالمية (تفاصيل)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 13-5-2025 في محافظة قنا    محافظ سوهاج: تشكيل لجنة لفحص أعمال وتعاقدات نادي المحليات    «التضامن الاجتماعي» توضح شروط الحصول على معاش تكافل وكرامة    الكشف على 490 مواطناً وتوزيع 308 نظارات طبية خلال قافلة طبية بدمنهور    بعت اللي وراي واللي قدامي، صبحي خليل يتحدث عن معاناة ابنته مع مرض السرطان (فيديو)    يلا كورة يكشف.. التفاصيل المالية في عقد ريفيرو مع الأهلي    كشف لغز العثور على جثة بالأراضي الزراعية بالغربية    تحت شعار «اكتشاف المشهد».. «أسبوع القاهرة للصورة» يواصل فعاليات دورته الرابعة بدعم غزة (صور)    اعتماد 24 مدرسة من هيئة ضمان جودة التعليم والاعتماد بالوادي الجديد    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي أم يجوزُ لي تأجيلُه؟| الإفتاء تجيب    إيمان العاصي في "الجيم" ونانسي عجرم بفستان أنيق.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    قبل عرضه على "MBC".. صلاح عبدالله ينشر صورة من كواليس مسلسل "حرب الجبالي"    أميرة سليم تحيي حفلها الأول بدار الأوبرا بمدينة الفنون والثقافة في العاصمة الإدارية    جامعة القاهرة تحتفل بيوم المرأة العالمي في الرياضيات وتطلق شبكة المرأة العربية- (صور)    طفل ينهي حياته داخل منزله بالإسماعيلية    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"إغاثة الأمة" للمقريزي والخلفيات السياسية للأوبئة
نشر في نقطة ضوء يوم 18 - 04 - 2020

من المؤكد أن الظروف الكارثية التي يعيشها العالم من أقصاه إلى أدناه جراء انتشار وباء كورونا الذي يوصف بأنه "متجدّد"، وأممية النتائج التي يسفر عنها هذا الانتشار بقتله الألوف وسجنه الملايين في بيوتهم، وإثارته هلعاً أممياً، هذه الظروف تعيدنا إلى واحد من كتبنا التراثية، هو بالتحديد كتاب يحمل جوهره في عنوانه "إغاثة الأمة بكشف الغمة".
والحقيقة أنه لئن كانت الأهمية القصوى للكتاب تبدو في الظروف العادية مفاجئة في بُعدها العلمي السبّاق على كل بحث في مادية التاريخ، وكذلك في اهتمامه بتفاصيل عادية الحياة أكثر بكثير مما في التاريخ من قيام دول وغزوات وممالك وتغيرّات سياسية كبرى، على منوال ما سوف تغوص فيه مدارس أكثر حداثة بكثير، لعل أهمها مدرسة "الحوليات" الفرنسية في القرن العشرين، فإنها تبدو لنا هنا حدثية بشكل لا بد من العودة إليه في ظل الظروف الراهنة.
كوارث مصر
فالكتاب وكما سوف نرى بعد سطور يتناول كوارث حدثت تحديداً في مصر، ليس لكي يكتفي بوصفها، بل أكثر من هذا، كي يغوص في تحديد أسبابها. وهي بالنسبة إليه أسباب سياسية ومادية واقتصادية وأخلاقية، حتى وإن كان لا يفوته، وهو المؤمن الورع، أن يحذو حذو رجال الدين في التركيز على أسباب غيبية يربطها على أي حال بالأسباب الأخلاقية.
ولعل علينا أن نلاحظ أن كُثراً من المفكرين الدينيين ومن مختلف الملل والمذاهب يتعللون اليوم، ولمناسبة انتشار كورونا وفظاعاته، بابتعاد الناس عن الدين كسبب للفاجعة الكونية، ناصحين بالعودة إلى شعائر وطقوس إيمانية لعلها تبعد شبحه عنا. وليس هذا هو موضوعنا على أي حال في مجالنا هنا، بل الموضوع هو الكيفية التي تناول بها مفكر من تاريخنا التراثي المسألة دون أن يسعى إلى أي مجابهة مع الإيمان؛ لأنه وكما يقول لنا بنفسه، يفضل أن يخوض في ذلك السياق معركة أخرى، علمية طبعاً ولكن سياسية أيضاً، وبلغة تكاد تنتمي إلى أيامنا هذه كما سوف نرى. ومن نتحدث عنه هنا ليس على أي حال عالماً جاء من أي مكان، بل من مدرسة ابن خلدون الذي عاصر آخر سنواته في مصر، وأخذ عنه وتأثر به إلى حد كبير. بل إلى حد يجعل الكثير من كتب المقريزي أشبه بتطبيق حي لما جاء في "المقدمة" من ربط الأمور بأسبابها وإرجاع العلل إلى معلولات مادية وتاريخية وجغرافية، وجعل الاقتصاد ونشوء الدول وزوالها ومفاهيم مثل العصبية جزءاً من كتابة التاريخ، وذلك حتى بشكل أكثر وعياً بدروس "المقدمة" من ابن خلدون نفسه، الذي نعرف أنه حين كتب "العبر" في أجزائه العديدة بعد "المقدمة"، لم يتمسّك بنظرياته فجاء تاريخه شبيها بالتواريخ التي كان انتقدها لعاديتها وتفاهتها في مقدمة "مقدمته". المهم أن المقريزي حمل لواء التاريخ الاجتماعي العلمي عن مُعلِّمه.
عن النقود والسياسة والطبقات الوسطى
وإذا كان المقريزي وضع في حياته التي تجاوزت الثمانين عاماً عدداً كبيراً من المؤلفات، بين كتب ضخمة ودراسات موجزة يظل كتابه "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"، الذي اشتهر باسمه المختصر "خطط المقريزي" أبرز تلك المؤلفات، غير أن كتابه الآخر الذي نجدنا متوقفين عنده هنا ضئيل في عدد صفحاته، والأهم من هذا ما يبدو واضحاً لمن يقرأه، أن مؤلفه قد وضعه دفعة واحدة، وأنه رغم ما فيه من إسهاب وخروج عن الموضوع في بعض صفحاته، كتاب تأسيسي، فريد من نوعه في ذلك الزمن.
إذاً تنبع أهمية "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، بالتحديد، من موضوعاته الأساسية كما تنبع من تجرؤ المقريزي على الدنو منها، وسط الظرف الاستثنائي الذي شكّلته مرحلة تأليف الكتاب. فالواقع أن المؤلف وضع كتابه في خضم كارثة مجاعة وأوبئة حلت بمصر عند بدايات القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
وتقول الحكاية إن المقريزي نفسه كان فقد ابنته الشابة في تلك الكارثة، ما أثّر فيه بشكل مضاعف، وجعله كما يبدو، وكما فعل أستاذه ابن خلدون حين دفعته كارثة أودت بعائلته، إلى اعتزال الناس وتأليف "المقدمة"، ينكبّ على وضع "إغاثة الأمة" وفيه بالتحديد، تحليل للكارثة وأزمتها. ولكن أيضاً فيه عرض لأسبابها وطرق معالجتها. وكان ذلك هو الشيء الجديد، لأن المقريزي، وبشكل لم يكن معهوداً ومنتشراً حينها، لم يعتمد نظرية القدر في كلامه على كارثة تقضي على البشر واقتصادهم، ولم يَدْع إلى الصلاة وطلب التوبة رداً عليها، بل تجاوز ذلك ليقول إن "للكارثة قوانينها المادية". و"طالما أن لها تلك القوانين، يصبح من الطبيعي أن يكون ممكناً إزالتها". فإزالة الأسباب تمكّن من إزالة النتائج. ولنا أن نتصور كم كان مثل هذا الكلام خروجاً عن السياق في ذلك الحين (وإلى الآن). وللتدليل على كلامه راح المقريزي يستعرض في النصف الأول من كتابه تاريخ الكوارث والمجاعات والأوبئة التي حلت بمصر منذ "فجر التاريخ" حتى حلول المجاعة الجديدة ووضعه الكتاب.
دور للمناخ أيضاً
وهكذا بعدما يفصّل المقريزي ما وقع من مجاعات، يصل إلى القسم الثاني والأهم من الكتاب معنوناً إياه، "فصل في بيان الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن التي نحن فيها حتى استمرت طول هذه الأزمان التي دفعنا إليها". وهو لا يفوته أن يحدد منذ البداية أن "البلاء الذي حل بالخلق منذ كانت الخليقة إنما يحدث من آفات تتعلق بالظروف الطبيعية السماوية في غالب الأمر: كقصور جري ماء النيل في مصر وعدم نزول المطر، أو آفة تصيب الغلال، وهذه عادة الله تعالى في الخلق، إذا خالفوا أمره وأتوا محارمه، أن يصيبهم بذلك جزاءً بما كسبت أيديهم". لكن المقريزي، إذ يقول هذا ويريح ضميره الديني، ينصرف إلى موضوعه الرئيس، الذي يهمه هنا، وهو الأسباب المادية البحتة، موضحاً كيف خفّ ماء النيل فتعطلت الزراعة وارتفعت الأسعار، ثم "تفاقم الأمر وحل الخطب وعظم الرزق".
ويصل هنا المقريزي إلى لب الموضوع حيث يقول إن لذلك كله ثلاثة أسباب، لا رابع لها، "الأول، وهو أصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة"، (ثم يورد أمثلة حية على ذلك)، و"الثاني: غلاء الأطيان"، بعد أن تصدى "قوم على الأراضي الجارية في إقطاعات الأمراء، وجلبوا عمالاً أثقلوا لهم الأجور، وزادت الأسعار"، ما جعل الإقليم "يشرف على البوار والدمار". وأما السبب الثالث، الذي كان نتيجة طبيعية لذلك كله، فهو "رواج الفلوس"، أي ما يسمى في لغة أيامنا هذه الاقتصادية: التضخم النقدي.
وإذ يؤكد المقريزي هذا الأمر الذي يعتبر تجديداً أساسياً، يتوقف قليلاً ليحكي تاريخ ضرب النقود، موضحاً في هذا الشأن نظريات مفاجئة، واصلاً إلى الحديث عن "غش الدراهم" ودوره في إشاعة التضخم وبالتالي فقدان الفلوس لقيمتها. وإذ يوضح المقريزي هذا، في تفاصيله، يتوقف عند تاريخ النقود في مصر، وينتقل في ذلك إلى ذكر أصناف الناس وأقسامهم، تبعاً لعلاقتهم بالاقتصاد، فيقسمهم سبع فئات (طبقات) تبدأ بأهل الدولة لتصل إلى "ذوي الحاجة والمسكنة"، فيما يعتبر أول حديث عن تقسيم طبقي، واقعي لا نظري، في التأريخ الاجتماعي الإسلامي، خصوصاً أن المقريزي يروح مفصلاً بعد ذلك دور كل من هذه الطبقات، لا سيما خلال الكوارث والمجاعات.
أما في القسم الثالث والأخير من كتابه، فإن المقريزي يورد الدواء بعدما تحدث عن الداء، وكما أن الداء بالنسبة إليه مادي له علاقة بتركيبة المجتمع، كذلك فإن الدواء مادي، وسياسي في شكل أكثر تحديداً، خصوصاً أن ما نسميه اليوم بالطبقة الوسطى (الفاعلة) هي مفتاح ذلك كله. ومن أهم دروب المعالجة "تصحيح وضعية النقد وإعادته إلى الذهب والفضة والحد من إغراق السوق بالنقد الذي لا قيمة له، الذي ينشأ التضخم عنه". ويبدو من الواضح جِدة هذا الحل وغرابته في ذلك الزمن على الأقل.
وتقي الدين، أحمد بن علي، المقريزي ولد في القاهرة (766ه- 1365م)، التي نشأ ومات فيها عام (845ه - 1411م)، وهو أصله من بعلبك في بلاد الشام، من حارة كانت تدعى المقارزة، لكنه انتسب دائماً إلى مصر ووضع عنها أفضل كتبه. وهو في القاهرة اتبع خطى أسرته التي عُرفت بالعلم والفقه والاشتغال بهما بين دمشق وبعلبك والقاهرة، ودرس دراسة تقليدية فيها انكباب على علوم الدين والقرآن والنحو والحديث. ومن الواضح أن تعرّفه إلى ابن خلدون وتتلمذه عليه، حين عاش الأخير في مصر، وجها المقريزي إلى دراسة المجتمع والاقتصاد والعمران، خصوصاً أن زمنه امتلأ بالحوادث الكبيرة التي كانت تستدعي تأملاً استثنائياً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.