سأتوقف في حديثي عن العلاقات الثقافية بين مصر ولبنان عند أربعة مشاهد عبر التاريخ الممتد للبلدين. المشهد الأول في المرحلة الأسطورية في التاريخ المصري؛ ففي الأسطورة الأوزيرية المشكلة للوجدان المصري منذ عصور بعيدة في تاريخنا تحتل لبنان مكانة خاصة، تقوم الأسطورة مثل كثير غيرها من أساطير العالم القديم حول صراع الأخوين، يمثل أحدهما الخير ويمثل الآخر الشر، في أسطورتنا ينجح الأخ الشرير ست في التخلص من أخيه الخيّر أوزير، ويضعه في تابوت يلقي به في نهر النيل، ووفقًا للأسطورة تتبع الزوجة إيزيت أو إيزيس خطى التابوت في محاولة لاستعادة جسد زوجها أوزير لرده إلى الحياة، يطفو التابوت على صفحة النهر ثم يخرج إلى البحر الواسع متجها نحو الشرق لتحتضنه شجرة أرز صغيرة في مدينة جبيل (بيبلوس) اللبنانية، وعندما تحتضن الأرزة التابوت تصير شجرة ضخمة عملاقة مورقة، فيأخذها ملك بيبلوس إلى قصره، وتصل إيزيت إلى قصر الملك لتكون بجوار الشجرة، وتعمل مربية لأطفال الملك، الذي يكتشف قدراتها السحرية، فيلح لمعرفة حقيقة أمرها، وعندئذ يسمح لها بالعودة بالشجرة الحاضنة للتابوت الأوزيري، وتعيد الزوجة المخلصة أوزير إلى الحياة، وتمضي الأسطورة إلى منهاها، لكن ما يعنينا هنا تلك العلاقة الوجدانية بين المصري القديم والبلد البعيد الذي استقبل جسد أوزير، إنها العلاقة التي ظلت ماثلة في الوجدان المصري طالما ظلت الأسطورة الأوزيرية في نسختها الأولى فاعلة. المشهد الثاني في التاريخ وعلى وجه التحديد في زمن الملك نخاو الثاني قبيل أفول الحضارة المصرية القديمة، ونخاو الثاني أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين حكم مصر في الفترة ما بين سنتي 610 و 595 قبل الميلاد على الأرجح، ورغم أن الآثار المادية لهذا الفرعون قليلة إلا أن المصادر التاريخية القديمة والنصوص الدينية المتأخرة لليهود تحفل بالكثير عن عصره، فقد قام نخاو بسحق وهزيمة الملك يوشيا ملك يهوذا خلال إحدى حملاته الحربية التي قادها بنفسه في فلسطين وسيطرت مصر في عصره على فلسطين وسوريا وفينيقيا، وحاول نخاو أن يتصدى للنفوذ البابلي الصاعد لكنه فشل في ذلك بعد هزيمته في موقعة قرقميش التي تراجعت مصر بعدها إلى حدودها الجغرافية الطبيعية، وتنسب إلى هذا الفرعون مشروعات ضخمة مثل الرحلة التي قام بها أسطول مصري فنيقي للدوران حول قارة إفريقيا بدءا من البحر الأحمر بمحاذاة الساحل الشرقي للقارة حتى رأس الرجاء الصالح ثم الصعود مرة أخرى بمحاذاة الساحل الغربي حتى المضيق المعروف الآن بمضيق جبل طارق والدخول عبره إلى البحر المتوسط لتعود إلى الشواطئ المصرية ومنها إلى النيل... كما ينسب إليه المؤرخ الإغريقي هردوت الشروع في حفر القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر. وربما كانت الرحلة البحرية المصرية الفينيقية المشتركة التي دارت حول القارة الافريقية في عصر الملك نخاو الثاني بفضل المعرفة الفينيقية المتقدمة في الإبحار أهم الإنجازات في مجال الكشوف الجغرافية في العالم القديم، فكانت تلك الرحلة الأسطورية التي تناقلت أخبارها المصادر القديمة أول محاولة بشرية معروفة للالتفاف حول القارة الافريقية قبل نجاح فاسكودا جاما في القيام بهذا العمل بألفي عام. نعبر قرابة ألفي عام إلى المشهد الثالث، في مصر زمن المماليك، مع رجل يكاد المتخصصون في تاريخ العصور الوسطى العربية يجمعون على أنه شيخ مؤرخي مصر وكبيرهم، وأن أعماله تمثل قمة النضج لمدرسة التأريخ عند العرب، إنه تقي الدين أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي، وهو مصري من أب من أصل لبناني، بلغة اليوم، وأم قاهرية، ولد في حارة برجوان بقسم الجمالية الآن في القاهرة القديمة والتي تنسب إلى أحد رجال الدولة الفاطمية في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله، وكان مولد المقريزي في سنة 766ه (1364 / 1365م) وفي هذه الحارة نشأ وتربى وتعلم، وبها توفي سنة 845ه (1442م)، وكان يعتز بانتسابه إليها فيقول في كتابه «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار»: «وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة»، ولا أعرف شخصيا سبب هذه المفاخرة، ورغم حب المقريزي لمصر التي قال عنها: «كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشيرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي»، ورغم المناصب التي تقلدها في مصر فقد عاش قسمًا من حياته متنقلًا بين القاهرة ودمشق ومكة هربًا من الاضطراب السياسي أحيانًا وجريًا وراء سبل العيش أو جمع المعارف أحيانًا أخرى. وترجع أصول المقريزي وأسرته إلى مدينة بعلبك اللبنانية وتنسب أسرته إلى حارة المقارزة بها، وقد استقرت أسرته في مصر قبل مولده بسنوات قليلة، وبعد أن درس المقريزي علوم الدين أصبح شافعي المذهب، بينما كان جده لأبيه حنبليا وجده لأمه حنفيا وتتلمذ هو على يدي أبرز فقهاء المالكية في عصره عبد الرحمن ابن خلدون، لكنه في النهاية اختار الشافعية مذهبا له وتفقه فيه باعتبارها المذهب السائد بين أهل مصر، وقد تولى الرجل مناصب التدريس والحسبة والقضاء والخطابة وكتابة الوثائق الرسمية للدولة، لكن دوره كمؤرخ كان الأهم والسبب وراء شهرته التي عبرت الزمان والمكان. والمقريزي أبرز تلاميذ مدرسة ابن خلدون المؤرخ ومؤسس علم العمران علم الاجتماع بلغتنا المعاصرة، وكان المقريزي التلميذ الذي فاق أستاذه وتفوق عليه، لقد عاش الرجل في عصر وصلت فيه الكتابة التاريخية العربية في مصر والشام إلى قمتها، واتجهت إلى الاشتغال بالكتابة التاريخية فئات متنوعة من المصريين، فنجد المؤرخين العساكر مثل الأمير بيبرس الدوادار، وهم مقاتلون من المماليك اتجهوا إلى تدوين التواريخ، ونجد المؤرخين «أولاد الناس» وهو المصطلح الذي كان يطلق على أبناء الأمراء المماليك، ومن أشهرهم ابن تغري بردي تلميذ المقريزي وابن إياس المصري الذي عاصر وقائع الاحتلال العثماني لمصر، وهناك كذلك المؤرخون الموظفون من رجال الإدارة الذين اتجهوا إلى التأليف التاريخي، ثم المؤرخون المشايخ أو الفقهاء وهم الأكثر غلبة وظهورا في الكتابة التاريخية العربية منذ الطبري في العصر العباسي الثاني حتى الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية وعصر محمد علي، وأخيرا المؤرخون الشعبيون ومثلهم الحاضر في ذهني ابن زنبل الرمال قارئ الطالع في الرمل الذي أرخ في نص أدبي بديع لاحتلال سليم لمصر ومقاومة طومان باي آخر سلاطين المماليك له. وتزيد مؤلفات المقريزي الذي ينتمي إلى المؤرخين المشايخ على مائه عمل، منها عشرات المؤلفات التي أخذت شكل الرسائل الصغيرة، تناول فيها أمورا متعددة ما بين تاريخ واقتصاد ودراسة لأحوال المجتمع وموضوعات علمية وفنية، حتى النحل والعسل الأبيض كتب عنه مؤلفا صغيرا بعنوان «نحل عبر النحل»، ومن أهم الرسائل الصغيرة التي ألفها المقريزي «إغاثة الأمة بكشف الغمة» التي يحاول فيها أن يقدم تشخيصا سياسيا اقتصاديا لأسباب الأزمة الطاحنة التي عاشتها مصر في السنوات الأولى من القرن التاسع الهجري الخامس عشر الميلادي، والتي أرجعها بالدرجة الأولى إلى استشراء الفساد السياسي ووصوله إلى السلطان رأس الدولة والقضاء، وإلى توحش الاستغلال الاقتصادي من قبل الفئات المسيطرة في المجتمع وعلى حساب المنتجين من فلاحين وحرفيين صغار، وقد سبق المقريزي في هذه الرسالة الصغيرة الاقتصاديين الأوروبيين في طرح نظرية دورية الأزمات الاقتصادية، ونظرية النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول، ولم يقف في هذه الرسالة الصغيرة عند التأريخ للأزمات الاقتصادية والمجاعات في مصر، ومحاولة الوصول إلى تشخيص أسبابها، بل انتقل خطوة أخرى إلى الأمام فقدم برنامجا سياسيا اقتصاديا اجتماعيا إصلاحيا للخروج بالبلاد من الأزمة. البعض الآخر من مؤلفات المقريزي كبير يبلغ الواحد منه عدة مجلدات، مثل كتاب «السلوك لمعرفة دول الملوك»، الذي أرخ فيه المقريزي لمصر منذ قيام الدولة الأيوبية حتى عصره، أي منتصف عصر دولة المماليك الچراكسة، وأكمل به سلسلة من المؤلفات تؤرخ لمصر منذ دخلها العرب، وقد صدر الكتاب محققا في اثني عشر مجلدا، حقق الستة الأولى منها المؤرخ الرائد محمد مصطفى زيادة تحقيقا رائعا، كان فيه نموذجا للمحقق الباحث يقدم النص الأصلي بدقة وأمانة ويضيف إليه من التعليقات العلمية والشروح ما يتيح للقارئ المعاصر فهم العصر الذي يقرأ عنه، وقد أكمل هذا العمل بعد وفاة الدكتور زيادة تلميذه الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، العمل الآخر المهم من أعمال المقريزي الكبيرة هو كتاب الخطط، لقد كان هذا الرجل ذو الأصول «اللبنانية» علامة من علامات الفكر المصري في القرن الخامس عشر. أختم حديثي بمشهد من مطلع القرن العشرين، بأبيات لمطران شاعر القطرين، قالها ناقدًا للهجمة الشرسة على الحريات في مصر شرِّدُوا أَخْيَارَهَا بَحْراً وَبَرا وَاقْتُلوا أَحْرَارهَا حُرّاً فَحُرَّا إِنَّما الصَّالِحُ يَبْقَى صَالِحاً آخِرَ الدَّهْرِ وَيَبْقَى الشَّرُّ شَرَّا كَسرُوا الأَقْلامَ هَلْ تَكْسِيرُهَا يَمْنَعُ الأَيْدي أَنْ تَنْقُشَ صَخْرَا قَطِّعُوا الأَيْديَ هَلْ تَقْطِيعُها يَمنَعُ الأَعْيُنَ أَنْ تَنْظُرَ شَذْرَا أَطْفِئُوا الأَعْيُنَ هَلْ إِطْفَاؤُهَا يَمْنَعُ الأَنْفَاسَ أَنْ تصْعَدَ زَفْرَا أخْمِدُوا الأَنْفَاسَ هَذَا جُهْدُكمْ وَبِه مَنْجاتُنَا مِنْكُمْ فَشكْرَا