ظل الفن التشكيلي لسنوات طويلة مرآة عاكسة للواقع الاجتماعي والثقافي والفني لكثير من الدول العربية، ومُعبّراً عن تراثها وتاريخها وأنماط الحياة فيها، مُستمداً كل مقوماته من البيئة العربية التي تتميّز بخصوصيتها وتفرّدها حتى أصابته رياح العولمة، واتجه مُعظم الفنانين التشكيليين إلى دول الغرب يستقون من أعمالهم ويقلّدونها، وهو ما انعكس على ابتعاد الجمهور وإحجامه عن الذهاب إلى المعارض لرؤية الأعمال الفنية، وأصبح الفن التشكيلي في البيئات العربية يُعاني أزمة كبيرة بعد انصراف الناس عن المعارض. يرى الفنان التشكيلي جورج البهجوري، أن أسباباً كثيرة أدت إلى تدهور الفن التشكيلي وانصراف الناس عن المعارض، فهو بداية يرجع إلى الواقع المؤسف للحركة التشكيلية لأنه لم يعُد هناك، ودلّل على ذلك بتلك الخطوة التي أقدمَت عليها نقابة التشكيليين حينما قرّرت إصدار كتاب لتكريم بعض التشكيليين في مصر، وجاءت مُعظم هذه الأسماء لا علاقة لها بالفن والرسم، بل إن المضحك أن أغلبهم أساتذة في كليات فنون مُختلفة، يدرّسون الفن للطلاب ويعلّمونهم الرسم، ولكنهم كرسَّامين لا علاقة لهم بالرسم، فقد توقّفوا عن الرسم منذ سنوات طويلة. وأكد أن مُشكلة التشكيليين الآن في مصر والدول العربية ترجع إلى أنهم يعادون بعضهم بعضا، ومعاركهم تكاد تكون على أمور تافهة، وعادة ما تكون على منحة من وزارة الثقافة، أو شراء اللوحات والمقتنيات، وفي الغالب ينقلون من بعض الرسومات والتقنيات لتظهر اللوحات مُتشابهة، ونتيجة لهذا التشابُه يبعد الجمهور عن زيارة المعارض، لأنه لا يجد ما يشدّه أو يجذبه منها، فالجمهور الآن لا يجد أعمالاً تُعبّر عن إبداع حقيقي، نتيجة إلى أن أغلب التشكيليين مُجرد حرفيين، والمحترفون قلة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. وأضاف بهجوري: حتى الأماكن التي تُقام فيها المعارض حالياً لا تتميّز بالجمال، فمثلاً أتيليه القاهرة الذي كان مركزاً جميلاً للفنانين وللمعارض، وكان فيه لجنة لاختيار الأعمال الفنية التي تُعرض، ومن خلاله برزت أسماء فنانين كثيرين، أما الآن فأصبح واقعه مؤسفاً، فبدأ يعرض أعمالاً مدرسية وبدائية لطلاب الفنانين، وبهذا افتقد الفن والأتيليه جماله الذي تميّز به. وسيلة اتصال أما الناقد والتشكيلي د.مصطفى الرزاز، فيرى أن أسباب الانصراف ترجع إلى أن المعارض لم تعُد وسيلة اتصال بين الفنانين والجمهور، وإلى تغيّرات طرأت على الشكل الاجتماعي والتحوّل من المجتمع الصناعي إلى الرقمي، والسبب في تمسّك الفنانين لإقامة هذه المعارض هو رغبتهم في الوجود في الحركة التشكيلية، واتجاه التشكيليين لرسم موضوعات غريبة عن واقعهم العربي، فهم ينقلون عن الغرب بدون وعي أو تفكير؛ مما يجعل الأعمال غير مألوفة في عين الجمهور ولا يفهمها. ويرى الرزاز، أن الفن في الأربعينيات والخمسينيات كان له دور أكبر مما له الآن، رغم التطور الثقافي والاتصالي الذي نعيشه الآن، ويرجع ذلك إلى أن الفنانين نتيجة للنهضة بدأوا يغيّرون اتجاهاتهم، فأصبحوا يتوجّهون لرسم أغلفة كتب الأطفال، ويستخدمون الجرافيك والكمبيوتر، ولكن الفن سيستمر من خلال الاتجاه نحو رسم الواقع المعيش، ورسم التاريخ والآثار العربية التي لا تموت، ومَنْ يسير على هذا الاتجاه ينجح وتكون له شعبية كبيرة بين قطاعات وفئات الجمهور المتعدّدة والمتنوّعة في رؤية الرسومات وفقاً لثقافة كل فرد. مازال حياً ومن جانبه، يؤكدالفنان محمد عبلة، أن الفن التشكيلي مازال له جمهوره، ولكن جمهور نوعي ويحتاج لجهود كثيرة للوصول إليه، والدليل على هذا هو أنه عندما تُقام المعارض في أماكن بها جمهور يُفاجأ الفنانون بوجود جمهور مُتذوّق، ولكن مُشكلة الفن التشكيلي في مُعظم الدول العربية تكمن في الإدارة، وفي عدم وجود تشجيع للنقد، ولا رغبة حقيقية من النُقَّاد في المتابعة، فالإدارة تنفق أموالاً كثيرة على المباني التي تُقام فيها المعارض، وليس على المعارض نفسها أو الفنانين المشاركين فيها. ويقترح أن تتم في مصر عملية خصخصة لقاعات العرض التابعة للدولة، أو يكون هناك مُتابعة لمعرفة هل يوجد جمهور لها أم لا؟ وأشار إلى أننا إذا نظرنا إلى سجلات الزوَّار في المعارض الحكومية سنجد أن شهوراً تمر دون أن يكون هناك زوَّار، رغم أن هذه المعارض تكلف الملايين، وتساءل: ما الذي جعل مكاناً خاصاً مثل ساقية الصاوي وقاعة بيكاسو وقاعة المشربية تجتذب مئات البشر؟ في حين لا يستطيع قطاع الفنون التشكيلية أن يحظَى بمثل هذا الجذب. وأضاف الفنان التشكيلي والأكاديمي د. عبد العزيز الجندي: أن الأمية هي الأساس في انفصال الجمهور عن الفن في مصر، ورغم أنها كانت موجودة في الخمسينيات والستينيات، ورغم هذا شهدت تلك الفترة إقبالاً من جمهور الفن التشكيلي. ويرجع هذا إلى ثورة 32 يوليو التي اهتمَّت بالفنون اهتماماً كبيراً، وكانت حريصة على وصولها للناس، فكانت المعارض تُقام في الشوارع والمقاهي، فالفن كان ينزل للناس في الشارع، أما الآن فالوضع اختلف، فلم يعُد هناك مَنْ يهتم بالجمهور، وفي الماضي كان الطالب لكي يلتحق بكلية الفنون الجميلة عليه أن يجتاز اختباراً شديد الصعوبة، أما الآن فيدخل الطلاب الكلية بالمجموع وباختبارات قُدرات بسيطة، فالكلية تضم الآن آلافاً من الطلاب مُعظمهم غير موهوبين ولا يفهمون معنى الفن، وينجحون ويتخرّجون دون خبرة أو موهبة. ونسبت الفنانة التشكيلية وفيقة مصطفى، انصراف الجمهور عن زيارة المعارض إلى الواقع الاقتصادي المرير الذي نعيشه، فنتيجة لارتفاع الأسعار وازدياد ضغوط الحياة، انصرف الجمهور عن تذوّق الجمال وبعدوا عن الترفيه، لأنه ببساطة لا يوجد لديهم أوقات فراغ يذهبون فيها لزيارة المعارض، وحتى نظرتهم للحياة أصبحت تشاؤمية، فلا يرون المناظر الطبيعية والزهور بشكلها الحقيقي، ولكن السوداوية تسيّطر عليهم. خدمة ( وكالة الصحافة العربية )