في كتابه الأخير المعنون: "واشنطن تحكم: طريق أمريكا إلي الحروب الدائمة" الذي يتسم بقدر كبير من الجرأة والدقة يوضح المؤلف "أندرو باسيفيتش" من جامعة بوسطن، مدي الضعف الذي لحق بصلاحيات مؤسسة الرئاسة في الولاياتالمتحدة وعجزها عن التحكم في زمام الأمور سواء في أوقات الحرب، أو السلام، إلي درجة أنه يمكن التعامل مع هذا الواقع المستجد في الحياة الأمريكية علي أنه انقلاب صامت ضد الرئاسة، وهو انقلاب يضمر نية مبيتة وغرضاً مقصوداً يقف وراءه فاعل مسئول عن تهيئة الانقلاب للوصول إلي أهداف معينة. وبحسب الكتاب يمكن للانقلاب أن يكون مؤسساتياً، أو فكرياً، كما يمكن أن يعلن من داخل الحكومة أو من خارجها لا فرق، والهدف هو إرغام الرئيس علي التصرف في اتجاه معين بعد سد جميع الأبواب في وجهه وتقديم خيارات محدودة أمامه بحيث يجد نفسه مجبراً علي اتخاذ قرار بعينه هيأه له آخرون. ولعل من الأمثلة الدالة في هذا السياق ما جري قبيل الحرب العالمية الأولي في ألمانيا عندما اجتمع جنرالات هيئة الأركان في البلاد ليضعوا خطة عسكرية دقيقة للتعبئة العسكرية السريعة والفعالة واستدعاء جيش الاحتياط إذا استدعي الأمر ذلك في حالة اندلاع الحرب، بل لقد قام الجنرالات بتنسيق خطتهم مع باقي القطاعات في الدولة لتتناغم مع قطاع النقل والسكك الحديدية وباقي القطاعات والجوانب اللوجستية وتجنيدها جميعاً خدمة للخطة العسكرية الموضوعة، تلك الخطة التي أقيمت علي افتراض أن العدو هو فرنسا غرباً وروسيا شرقاً، بحيث كان من المتوقع أن توجه ألمانيا ضربة سريعة تشل القوات الفرنسية فيما يمكنها الاشتباك مع القوات الروسية بطيئة التعبئة وأخذ ما يلزم من وقت لدحرها. ولكن ما حدث في ملابسات الحرب والظروف التي أدت إليها جعل صربيا وروسيا، وليس فرنسا، هما من أشعل فتيلها، ومع ذلك أصر قادة الجيش الألماني علي مهاجمة فرنسا عن طريق بلجيكا المحايدة فدخلت بريطانيا أيضاً في الحرب من أوسع أبوابها. والقصد من هذا المثال أن الخيارات أمام السياسي الألماني كانت موضوعة و"مطبوخة" سلفاً ولم يكن بمستطاعه تغيير مجراها حتي بعدما تبدلت المعطيات، وهذا نفسه ما ينطبق علي أمريكا حيث إن الطريقة التي تجري بها السياسة هي من يضع الأجندة ويرسم الطريق ويجبر الرؤساء علي السير فيها. ففي عام 1948 عندما كانت القوات الجوية الأمريكية تحت قيادة الجنرال "كورتيس ليماي" حددت لنفسها مهمة الدفاع عن أمريكا أمام هجوم سوفييتي فقامت بتطوير ترسانتها وأسطولها الذي لم يكن يتعدي في تلك السنة 29 قاذفة قنابل ورثتها من الحرب العالمية الثانية لتتطور الترسانة في السبعينيات إلي 10 آلاف رأس نووي قادرة علي ضرب المعسكر السوفييتي، فماذا كان يفترض في أي رئيس أمريكي في تلك الفترة القيام به وهو مدجج بكل تلك الأسلحة الفتاكة؟ وبالعودة إلي ما يتعلق بأوباما فهو، للتذكير، عندما انتخب رئيساً للولايات المتحدة تعهد بخوض "الحرب الصحيحة" في أفغانستان، إلا أنه كان يتوقع من وزير الدفاع، روبرت جيتس، أن يضع أمامه حزمة من الخيارات تتوزع بين محاورة "طالبان" وحتي الحرب النووية، مرفوقة بتحليل وافٍ لكل خيار علي حدة وإمكانات نجاحه. ولكن بدلًا من ذلك قُدمت له خطة واحدة كان معمولًا بها أصلًا في العراق وهي الزيادة في عدد القوات، متبوعة بمحاربة التمرد كما حددها الجنرال "ديفيد بترايوس" وحظيت بحملة إعلانية واسعة روجت لها علي أنها الاستراتيجية الوحيدة الناجحة في حروب أمريكا، بحيث يبدو في المحصلة النهائية هي أن أوباما تعرض لعملية خداع دفعته دفعاً إلي تبني خطة البنتاجون الموضوعة سلفاً. غير أن هذا الخداع، أو الانقلاب كما يصفه "باسيفيتش" لم يأتِ من العسكريين، أو جماعة المحافظين الجدد، بل من طبيعة الحكم في واشنطن والطريقة التي تجري بها السياسة في الولاياتالمتحدة، فضلاً عن أهواء الإعلام وتوجهاته ومزاجه العام. ويضاف إلي ذلك الرأي العام غير المتفهم والخاضع لمشاعر وطنية مفرطة تحركها طبيعة السياسة الداخلية من جهة والإعلام من جهة أخري. وفي هذا السياق يبدو أن الطبقة السياسية الأمريكية أقنعت نفسها بأن أمريكا تخوض "حرباً طويلة"، أو لنقل حرباً أبدية ضد التعصب والتطرف وضد الخطر الذي تمثله الأصولية علي المحاكم الأمريكية كما حذر من ذلك بغباء كبير ومكر، في الوقت نفسه، أكبر "كارل روف" الذي قال إن "طالبان" ستجتاح الشوارع الأمريكية. وفيما كان الجنرال "بترايوس" يبني شهرته ويلمع سمعته بإحيائه لتكتيكات حرب العصابات القديمة وتطبيقها في الساحة العراقية بعدما أقنع رؤساءه والرأي العام بأنها الاستراتيجية الناجحة لم يجد أوباما بدّاً من مواكبة الاتجاه العام والموافقة علي سحب 50 ألفاً من القوات الأمريكية المرابطة في العراق، لينقل "بترايوس" خطته تلك إلي أفغانستان للتعامل مع حرب لا يبدو أن النصر فيها وشيك! وقد تمت صياغة الحرب في أفغانستان علي أنها الحرب الطويلة اللازمة ضد قوي التطرف بهدف نشر الديمقراطية حتي وإن كانت المهمة صعبة، وبهذا المعني تتحول الحرب هناك إلي مهمة تحضيرية مُتسترة علي المهام الاستعمارية، في رأي منتقديها من اليساريين، وتقوم علي نقل الأساليب نفسها التي انتهجتها أمريكا في فيتنام والمتمثلة في كسب عقول وقلوب المدنيين. هذا علي رغم أن الصحفي "بوب وودورد" في كتابه الأخير "حروب أوباما" ينقل عن الجنرال "بترايوس" نفسه قوله: "لا أعتقد أن هذه الحرب من النوع الذي يمكن فيه تحقيق انتصار حاسم، بل لعلها الحرب التي سنخوضها علي امتداد حياتنا، وربما ستستمر حتي حياة أبنائنا أيضاً"! ولكن هل سيسمع أوباما مثل هذا الكلام نفسه من الجنرالات خلال المؤتمر المهم الذي سيعقده الرئيس في شهر ديسمبر المقبل لحسم الاستراتيجية حول أفغانستان، أم ستواصل مكيدة السياسة في واشنطن عملها لخداع أوباما وإجباره علي اتخاذ قرارات بعينها؟ عن خدمة "تريبيون ميديا سيرفيسز"