استأذن القارئ العزيز أن تكون مقالتي هذه منقسمة إلي مقالتين وهذه أول مرة اتبع هذا الأسلوب حيث إنني اعتدت أن تكون مقالتي وحدة واحدة تنساب فقراتها تباعا لتصل إلي الغرض الرئيسي من كتابتها.. إلا أن الموضوعين اللذين تتضمنهما هذه المقالة ليسا بمتناقضين رغم أنه من الوهلة الأولي يبدو ذلك. 1- يبدو أننا أمة كتب عليها إضعاف ظهرها وزيادة أحمالها "فرغم الخطوات الوئيدة للوصول إلي دولة المدنية ودولة كل المواطنين والمجتمع المفتوح والولوج لعصر المدنية والحداثة والتواصل مع منجزات الحضارات الراقية التي أرست معايير العقل والتسامح وفعلت من روح الابتكار والمبادرة واحترام حقوق الإنسان علي كافة الأصعدة، نجد ما زال في جوف أرضنا جحافل من الانقلابيين تخرج متكدسة تدوس علي المدنية بعنف وبلا رحمة وترسي ثقافات حلقات الذكر الفاشية.. مصر المدنية التي ناضلت قرابة نصف قرن لتأصيل معايير الدولة المدنية ودولة المواطنة بحق، وبعد مرحلة من النكوص والهزائم المتتالية علي أيدي أيديولوجيات فاشية، استطاعت مصر مرة أخري أن تنهض وتستجيب للتحديات الداخلية والخارجية وفعلت من "قانونها العام" ألا وهو "الدستور" "كتاب الوطن" عندما اشتمل بابه الأول وفي مادته الأول "أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم علي أساس المواطنة.. وحزمة التعديلات الأخري التي تأخذ مصر علي أعتاب الأمم المدنية، إلا أن أقدام حلقات الذكر ترفض ذلك وتصر علي أننا أمة يتحكم في مصيرها ثقافة الكتب الصفراء والدفاتر القديمة التي يبحثون عنها داخل الأقبية المليئة بالأتربة ودغدغتها الفئران.. وبدلا من أن نهم بالولوج لدخول عصر المدنية نتراجع أمام "المنظرجية" الجدد الذين يغازلون البسطاء والمعارضين. وكان آخر هذه الموضات المنظرية والانقلابية شروط السيد الدكتور محمد البرادعي صاحب السبعة والعشرين عاما بعيدا عن مصر نراه يرحب بترشيح نفسه رئيسا للجمهورية - قبل موعد الانتخابات بعامين - وبعد نهاية ولايته كمدير للوكالة الدولية للطاقة الذرية.. معالم الموضة المنظرية والانقلابية علي تاريخ مصر الدستوري بتفاعلاته الاجتماعية هي الشروط التي تفضل الدكتور البرادعي بأهمية تحقيقها أولا ليقبل ترشحه لرئاسة الجمهورية بعد عامين.. وكأن الملايين من المواطنين المصريين خرجوا يلفون شوارع المحروسة تطالب بالدكتور البرادعي رئيسا.. وضع الدكتور البرادعي شروطا تنال من سيادة مصر وكرامتها واستقلالها وتشيع روح الانقسام فيطالب سيادته برقابة دولية من الأممالمتحدة وإنشاء لجنة مستقلة ومحايدة تشرف علي العملية الانتخابية، ووضع دستور جديد يكفل الحريات وحقوق الإنسان.. ولنتفحص جيدا شروط الدكتور، فهل عندما يطالب بوضع دستور جديد لا يعني _ وهذا ليس اتهاما بل واقعا حقيقيا _ أنه لم يقرأ الدستور المصري أصلاً بحكم غيابه عنها _ هل قرأ الدكتور الدستور المصري.. ما طالب به يعني أنه لم يقرأه للأسف الشديد ولكنه راح يدغدغ طموحات ذهنيات بسيطة ومعارضين ألفوا المعارضة من أجل الوصول إلي سدة الحكم عبر الانقلابات والاحتجاجات.. هل الدستور المصري لا يكفل الحريات وحقوق الإنسان.. يا للعجب.. مع احترامنا الشديد لإنجازات الدكتور العلمية وحصوله علي أعلي الشهادات والتقديرات والجوائز منحتها إياه مصر أولاً عندما منحه الرئيس مبارك قلادة النيل العظمي التي لا تمنح إلا للملوك والرؤساء ومن قدموا خدمات عظيمة للإنسانية، ثم جائزة نوبل للسلام.. ومن المؤكد أنه حصل علي عدة جوائز أخري، ولكن هذا لا يعني علي الإطلاق ملاءمة ليكون رئيسا لمصر التي يعيش علي أرضها 80 مليونا زادت الضعف طوال غياب الدكتور خارج حدودها.. إن الذين حصلوا علي جوائز عالمية قديرة وكثيرة يملأون بلدانهم، ولكننا لم نسمع علي الإطلاق -إلا نادرا- ترشيح أحدهم لرئاسة بلدانهم، فدروس البحث وتجارب المعمل شيء والعمل السياسي شيء آخر.. ويكفي أنه بدأ قصيدته بأول كفر عندما أكد للجميع أنه لم يقرأ الدستور المصري.. ولنطرح علي سيادته بعض الأسئلة كم عدد زيارات الدكتور لمصر طوال السبعة والعشرين عاما الأخيرة التي شهدت فيها البلاد حراكات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية كبيرة.. كم عدد قري ونجوع مصر التي شاهدها الدكتور طوال هذه الفترة، كم شارك أو استمع أو قرأ عن المؤتمرات العامة للأحزاب المصرية طوال هذه الفترة.. ما هي المشكلات والتحديات التي واجهت المصريين خلال هذه الفترة وكان يتابعها الدكتور.. ما مدي متابعة الدكتور لحجم المشاركة السياسية للشباب المصري وهمومه وأزماته.. كم مرة سار في شوارع مصر وتعرض للاختناقات المرورية.. إن من يطالب بتغيير الدستور.. لم يكتف فقط بمطالبة تعديله ولكن اشترط تغييره، هذا يعني أنه يمارس السياسة من شرفات ستيلا دي ماري.. 2- إن الدولة لم توجد منذ أزل، أي أنها ليست بالمخلوق الطبيعي الذي ليس للإنسان فيه دخل ولا عليه سلطان، ولا هي كذلك نتيجة الصدفة رمي بها إلينا تصادم رياح وتيارات عاصفة كانت السماء مسرحا لها. ولا هي انعكاس لواقع العقل المجرد.. إنها مدلول اجتماعي وحضاري بمعني أن الدولة مولود المجتمع عند درجة من درجات تطوره.. وما بروزها إلا حجة ودليل وبرهان علي دخول المجتمع طور الحضارة في معناها الاجتماعي الواسع.. فهي جهاز حكم أي مجموعة مؤسسات تسطر نمط الحياة في مجتمع محدد وفي قالب اختيارات اقتصادية وسياسية وثقافية شاملة.. هذا أمر بديهي ومعروف لكل باحث في العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ولذلك قامت الدنيا ولم تقعد بعد موافقة المواطنين السويسريين علي منع بناء المآذن في بلادهم.. لماذا جاء هذا الإجماع أو شبه الإجماع.. لم يسأل أحد نفسه ولكن راح العديد يزايدون علي دولة الرفاه والمؤسسات والحريات والتعددية.. إن ذلك الإجماع جاء نتيجة ما مارسه القادة الظلاميون وبعض الشيوخ الأغبياء وبعض رجال الدين السفهاء الذين اختزلوا الأديان في مجرد طقوس.. وعندما حاولوا ربطه بقضايا المجتمع راحوا يبررون الاغتيالات والإرهاب بحجة المقاومة والدفاع عن الدين.. ومن هنا انكشفت الغمة.. انكشفت الشعارات الكاذبة.. انكشفت فوضي الفتوجية الجدد.. انكشف الرجال الذين يدافعون عن السماحة والتسامح واليمن والبركات.. انكشف زيف الشعارات الفضفاضة والكاذبة.. انكشفت البكارة الكاذبة.. انكشف مدعي التفاعل مع العصرية والمدنية.. انكشفت جماعات الإسلام الديماجوجي.. انكشف كل من روج لأفكار المؤامرة.. انكشف الإعلام الملوث والكاذب والدعائي.. انكشف إعلام جوبلز.. اتضحت الحقيقة.. أن سويسرا بلد الحريات بدستورها المتسامح المدافع عن حريات التعبير والعقيدة، راحت بدستورها ومدنيتها ضحية لجحافل الجهلاء والأغبياء الذين لوثوا شعوبهم وأوطانهم الأصلية بأكاذيب وادعاءات وشعارات كاذبة.. حتي سويسرا نفسها راحت تحمي نفسها من إسلام الكاذبين والمتعصبين والمتطرفين والجهلاء.. راحت تحمي نفسها قبل أن ينالها سبتمبر جديد من مختبئ المحاجر.. راحت تحمي نفسها من مهاجرين جاءوا إليها عبر هجرات شرعية وغير شرعية حاملين شعار البحث عن المال وخافت أن يتحول إلي شعار الإسلام أو الشهادة التي رأوها عبر كافة مناطق الشرق الأوسط.. راحت تحمي نفسها وتتناقض مع دستورها وتاريخها المتسامح من أفول أبناء المتطرفين والمتعصبين والجهلاء الذين لا يملكون علما أو معرفة بل فقط ثقافة الغوغاء.. راحت تحمي نفسها من جبهات الإنقاذ الجزائرية والسودانية وإخوان مصر والأردن وتونس.. وحماس فلسطين وحزب الله لبنان وإيران وسوريا وجماعات الاغتيالات والإرهاب وراء كمامات الغدر والخيانة..