رشيد قويدر كاتب فلسطيني حدثنا الأستاذ أيمن خالد في مقالته المعنونة "السيد نايف حواتمه يطلق النار علينا"، فقال: "يطل الأمين العام ليتحدث سياسياً ويطلق النار على الإسلاميين ..." (!). وتتبدد المفاجأة حين يتبين لك أن المقصود هو مقاله للأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والمعنونة: "وثيقة الوفاق الوطني ... إعادة الاعتبار للبرنامج الموحد والعمل الوطني المشترك". وإذا ما تجاوزنا بنية رده على المقالة، فإننا نجد بها جملةً من المغالطات والتصورات حول البرنامج الوطني الفلسطيني الموحد ذاته، باعتباره نقطة تحول نوعية في التاريخ الفلسطيني الراهن، ومخرج للأزمة الفلسطينية المستفحلة، فيقع الكاتب بما هو مخالف للعقل والقواعد والمنطق. وحتى أبين مجموعة من المغلطات على مستويات عدة؛ فالقاعدة الأولى تبدأ فيما ينبغي أن نقتبسه؛ وفي باب أولي، بأن يتم ذلك بالأمانة والصدق في النقل دونما اجتزاء، الأمر الذي جرى من قبل الأستاذ أيمن خالد في المقالة المذكورة. فضلاً عن أن نصه ذو طبيعة سجالية واضحة، ولكن للأسف فهو يصطرع فيه وحده، عبر مجموعة من الادعاءآت والافتراضات التي سنبيّنها تباعاً. ومن البداية نقول ان قوانين النصر في كل حركات الشعوب تؤكد ان الوفاء الوطني يعتمد على أمرين: الأول معرفة المبدأ الذي تتوحد عليه القوى والناس، والذي ينبغي اعتماده معياراً لهم. والثاني هو تعميم تبني القاعدة التي يقوم عليها هذا المبدأ، استناداً إلى إنجاز الغاية والهدف؛ ألا وهي الوحدة الوطنية المنشودة، فالوحدة وإجماع واجتماع الأمة هو الخير بعينه، ف "الأمة لا تجتمع على باطل". في مخالفة العقل؛ فإن الأستاذ أيمن ومن لف لفه من هذا الرهط، من الذين يفترضون ذواتهم تقع داخل دائرة الوحي، وكي ينجحوا في بناء مساجلة، يقومون بالتأويل والقص في القضايا العلمية عبر فصل معادلاتها. وفي نطاق من المعرفة المزعومة، وفي نمط من المساجلة الادعائية الافتراضية والكلامية اللفظية مع الذات ، والتي تفتقد للعلائق التاريخية للموضوع المطروح، وهذه هي الحالة التي مثلها في مقالته، وهي الأكثر شيوعاً. لكنها في الواقع تدرج في اللا معقول على مستوى الرؤية والنظر والاستيعاب والفهم، مما يزيد في لا معقولية موقفهم وإغلاق أي جانب لسحب خيط الأفكار والسياسة. وبإمكاننا أن نوضح هذه المشكلة على أكثر من نحوٍ وبُعد. لكن ما يهمنا هنا طبعاً، هو أن هذا التأويل للقضايا العلمية والتاريخية، وفصل معادلاتها، هو أمرٌ لا مفر منه لهذا النفر، لأنها مسائل تتصل بالتصور والاعتقاد الذي "لا اجتهاد فيه". وعليه تبدأ المهمة الأولى بالتأويل والاجتزاء، للإجابة على سؤال يخص هذه الذات: كيف ينبغي أن تُؤول المواقف كي نصل إلى المقالة الأفكار وبما تم تزويره ؟ أي الإمعان في هذا الاحتيال وعدم تجنبه، ومثال هذا الصارخ المكشوف اجتزاء الفقرة الاولى عن البرنامج الوطني المرحلي، والقفز عن الفقرة الثانية المتكاملة التي تشير ان انجاز البرنامج المرحلي بتقرير المصير ودولة فلسطين عاصمتها القدس وعودة اللاجئين ... تفتح على مرحلة كفاحية جديدة، "مرحلة الصراع لبناء دولة ديمقراطية موحدة على كامل ارض فلسطين التاريخية". وحتى تتوضح المسألة بصورة أوضح، نقول إن معرفتنا مستقلة منطقياً عن القضية المذكورة بالمقالة، بل نزيد أنها مستقلة عن القضية المكونة لأية ماهية عُقديّة إيديولوجية، وفي أساس استقلاليتها المنطقية هو المستوى السياسي؛ الاجتماعي؛ الاقتصادي. فهذه المواضيع ليست شأناً خاصاً لدين ما؛ سواء كان إسلامي، مسيحي؛ بوذي؛ يهودي، هندوسي، فهي شأن غير ديني ولا ترتبط بالنواة العُقدية أينما كانت وحلت. وإن بدى وتماهوا بأن الله قد "اختصهم" وحدهم لهذه المهمة الأخيرة. ولكن مع الأسف لم يحسبوا حساباً للقواعد التي يفترض أن يقيموا عليها حسابهم السياسي ومن ثم مستلزماته وكيفية تطبيقها، فالحالة العُقدية لدى البعض وصلت إلى "الاصطفاء" لهم وحدهم، ولمزاياهم الذاتية التي تجعلهم أكثر "كفاية" من سواهم للقيام بهذه المهمات المذكورة، رغم تخلفهم عن المقاومة والثورة الفلسطينية المعاصرة اكثر من عشرين عاماً. وتبنى السجالية المتوهمة في مقالته على صوت الافتراض باعتباره حالة "اللا تصديق"، وتحيل ذاتها إلى صوت التقرير، أما جذورها المرَضي فهو الاختلاف الفكري بين نظرة "توحدية" مغلقة ذاتية وبين نظرة توحيدية وطنية، مما تحمل من أفق ورؤية وطنية تعددية. وهنا فقد استوت رؤية الأستاذ أيمن بين حدّين، اختار أحدهما الذي ينفي الخصوصية الوطنية. والثاني موقف الأمين العام للجبهة الديمقراطية، الذي يعمّق الخصوصية الوطنية ويفعّلها في تعدديتها، بما يستتبع من نفي الربط بين الدين والدولة. أما خلاصة الأستاذ أيمن، فإننا لا نجانب الصواب إن قلنا أنها نمط من التعبير الديني، يحمل من مظاهر السياسة ما يحاول إحالته إلى هالة من "القدسية"، وفي سياق استعماله بجمل مجتزأة خدمةً لاستعماله اللغوي، فيختلف معنى الجملة باختلاف استعمالها، حين تُجرد من الغرض الذي تُستعمل من أجله، فتبدو أنها جملةً لا يمكن أن تختلف العقول حول معناها، باعتبارها ليست محددة بل مطلقة، سمة الطبيعة المخاتلة للعب على النص، وإبعاده عن مضمونه المحدد بصورةً جذرية. أما عذرنا له؛ فهو بسبب ما قد اعتاده البعض على الطابع المطلق للقواعد، باعتبارها ذات مصدر مطلق وليست صنيعة البشر أنفسهم، لكن الضحية هي الحقيقة التي نتعامل معها، ومع مَنْ ينطق بها، وطالما أن قاعدته هي "لا اجتهاد فيما فيه نص" باعتباره الحالة اللا معقولة، فمن الحكمة والحشمة ألا يعبث في اجتهاد الآخرين، بما يلغي النص من حيث المبدأ. هل فرغت جعبتنا ؟ بالطبع لا، فثمة جوانب عديدة لا ينبغي اللعب بها في القضايا الوطنية، فمواقف نايف حواتمه الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وعلى امتداد تاريخ طويل من عمر قضيتنا الوطنية الفلسطينية والعربية يناهز نصف قرن؛ هي قمم شامخة أبيّة في سجل هذا التاريخ، مشهودة بالعلم والتنوير والاعتزاز بالعقل، ومقرونة بمبادئ الشهامة الوطنية والنُبل الأخلاقي، ولا يمكن لأحد محاولة خدش أو النيل من هذا التاريخ. في هذا الغيض لا بد من أن نقدم الشكر للأستاذ أيمن خالد، لنقول أفحمتنا وأفهمتنا، فزدنا من لدنك شفاعةً ترتضى. ونختم مع المعري في لزومياته:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهداً وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي