رائحة الوطن هي مدادنا، وشواطئه وجباله، واقماره ونجومه، وعيون نسائه هي بعض ابجدياتنا.. بلادنا مجموعة كلمات جميلة، كلمة منك.. وكلمة مني، قشة تحملها انت وقشة احملها انا.. هكذا يُصنع الربيع.. وأنا يسعدني ان اكون عشبة صغيرة في هذا الربيع. هذه هي رائحة الوطن كما رسمها بريشته الساحرة عاشق دمشق نزار قباني.. لا اعلم لماذا ألحت علي كلماته وطاردتني بشدة ترنيماته في حب الوطن طوال شهر رمضان الفضيل! فبالرغم من سذاحة الاحداث احيانا في مسلسل حرب الجواسيس.. وعلي الرغم من عدم مطابقتها لحد واضح مع احداث رواية الرائع الراحل صالح مرسي التي كنت اتمني ان تقدم دون تحريف لانها درس يجب ان نراه بعيون صانعيه ويجب ان نلقنه لابنائنا من جيل "الفيس بوك" دون تحريف! الا ان القصة دغدغتني وعزفت بقوة علي اوتار وطنيتي التي افتخر بها دائما وافتقدها احيانا في هذا الزمان الذي لم تعد كلمة جاسوسية فيه تعني فقط من يتجسسون علي اخبار الاوطان بل هي كلمة تعريفها يخص كل من يتشدقون بوطنية لا يعنونها وكل من رأي منكرا وأدار رأسه وقال: وأنا مالي! وكل من اصبح يري بقلبه القبح ولم تعد عيناه تقع الا علي مساوئ وطن خط الشيب شعره وزحفت التجاعيد علي ملامحه وترهلت تفاصيله. سعدت بقصة الفتاة الوطنية التي تغلب حبها للوطن علي كل مواطن ضعف الاخرين فتغلبت علي حب المال وحب الشهوة وحب السطوة وحب القلب. واعترض بشدة علي نهاية موت خطيبها الخائن برصاصات الصهيوينة الغادرة، فهكذا تحول في عيون الشباب من خائن الي بطل قومي بالرغم من انه باع نفسه اولا ثم باع وطنه دون دمعة ندم من اجل ضغط ظروف اختلقها وصدقها ثم طالب الجميع بتصديقها.. والانسان القادر علي البيع دائما قلما استطاع الاحتفاظ بالاشياء الثمينة ؛ لانه ببساطة لا يدرك قيمتها.. فكيف يتحول فجأة من بائع الي مشتر وكيف تتغير اولوياته من باحث عن المال الي باحث عن انتماء لوطن خانه عند اول منعطف ألحت عليه فيه احتياجاته المادية فمحت كل قيمه وعقائده وثوابته من دفاتر وطنيته. ماذا حدث للانسان المصري بعدما كان قلبه يوما هو مسكن وملجأ ومتسعا لمصر.. أكم من بطولات قرأنا عنها وسجلها التاريخ بين صفحاته لشباب ارتموا تحت اقدام الوطن حين احتاج اليهم.. اين المصري الذي حرر سيناء؟ اين المصري الذي استشهد وهو يحمل علم مصر؟ اين المصري الذي لم يفكر لحظة في حياته حين عمل جاسوسا لمصر؟ اين المصري الذي قام بالمظاهرات وتكاتف مع اقرانه وعمل في الخفاء لتحرير الوطن من مستعمريه؟ اين كل هؤلاء؟! لابد ان نبحث عن الاسباب الحقيقية وراء هذا التغيير.. هل هي الظروف وضغط الحاجة علي الناس، هل هي البطالة وارتفاع الاسعار الجنوني، هل هي الحكومة التي تعيش في واد والشعب في واد اخر، .. تعددت الاسباب والموت واحد. ما نقرأه كل يوم في صفحات الحوادث ونشاهده في الفضائيات درب من الخيال، اننا نعاني من ارتفاع حاد في الاسعار يصاحبه انخفاض ملحوظ في مستوي الاخلاقيات. لقد قرأت في رمضان عن شركة مترو الانفاق التي تسببت في هبوط مستوي الارض فوق رءوس البؤساء في باب الشعرية "وطبعا مش في الزمالك لان حتي الارض عندها دم!" فتبرعت بألف جنيه يوميا لكل من تسبب هذا الهبوط في تشريده هو واسرته مما ادي الي ان يطلق رجل زوجته ليحصلا هما الاثنان علي الفي جنيه!.. اذن هو الفقر! وقرأت عن رئيس الشركة الذي طلب عشرين الف جنيه من شاب مقابل تعيينه في وظيفة مما جعل الشاب يستولي علي كارت بنكي لسائح ويسحب المبلغ المطلوب؛ لانه لا يملكه دون النظر عن تحوله من محتاج الي لص، فهو ضحية شخص معدوم الضمير يقول هل من مزيد؟ اذن هي الحاجة! كما قرأت عن الرجل الذي قتل زوجته وابناءه دون رحمة ولا شفقة خشية املاق.. كيف نصب نفسه قاضيا وعشماوي فحدد اقدارهم وغير مصائرهم.. اذن هو الخوف! اي فقر وأي حاجة وأي خوف هذا الذي حولنا من ابطال الي جواسيس نبيع ضمائرنا ومصائرنا لمن يدفع اكثر. اخشي ألا تعود لنا حاسة الشم فنصبح عاجزين ابدا عن التشبع برائحة الوطن مرة اخري وتصبح رائحة الوطن الوحيدة التي نستنشقها هي رائحة اكوام القمامة المتراكمة في كل مكان من الجيزة الي مدينة نصر تبحث عن يد تزيلها وترد اعتبار المواطنين الذين فرض عليهم التعايش السلمي مع الزبالة او انتظار تدخل الحكومة في نهاية 2010 او الحل الاخير هو انتظار تدخل العناية الإلهية.. لك الله يا مصر.