تتجلي حكمة الخالق عز وجل في تنوع مخلوقاته التي يحمل معظمها الشيء ونقيضه.. فالإنسان موزع بين الخير والشر، الفرح والحزن، الطموح والكسل إلي آخر المتناقضات التي تتصارع وتدور المعارك بينها لينتصر أحدها ويفر الآخر هاربا.. وشهر سبتمبر يحمل لي بشكل اساسي مناسبتين في غاية الاهمية في حياتي.. المناسبة الكبري هي رحيل الزعيم الخالد جمال عبدالناصر في مثل هذا اليوم منذ 39 عاما والغريب ان حزني لغيابه لايزال اخضر بل وطازجا فأشعر انني ومعي ملايين الناس، قد فقدته منذ ساعات.. اذكر انني كنت في ليبيا وكانت المرة الأولي التي اغادر فيها مصر مع وحيدي نبيل لزيارة اقارب بأسرتي وهناك أيقظوني علي النبأ الرهيب فبقيت في السرير لما يقرب من نصف ساعة وكل جسدي يرجف ولا انطق بكلمة واحدة لدرجة ان أمي رحمها الله أخذت تهزني حتي تخرجني من الحالة التي تراني عليها.. وهنا أطلقت صرخة شعرت أنها كانت مجموع كل خلايايا.. كل خلية في جسدي كانت تصرخ وانصهرت كل الصرخات في واحدة اصابت من حولي بالفزع من أن يكون قد مسني جنون.. هرعت إلي شارع الفاتح من سبتمبر بطرابلس وقد نسيت ابني نبيل بأعوامه الاربعة وكبر حزني بأحزان آلاف الليبيين الذين ما أن داهمهم الخبر المفجع إلا و"هاجروا" إلي الشارع، ملتقاهم المعتاد مع عبدالناصر.. انها ظاهرة تحتاج إلي آلاف وربما ملايين الصفحات علي مر التاريخ وسيبقي الشعار الاجمل فيها ما خرج من أعماق القلب.. "تسعة وعشرة ايدناك ويوم الاسراء ودعناك!".. وزادت احزاني في سبتمبر هذا بما جري لوزير الثقافة الفنان فاروق حسني في "انتخابات!" اليونسكو التي كشفت عن "عمق" الصداقة الاستراتيجية مع واشنطن والتي رغم كل شيء خرجت منها مصر التاريخية بصورة مشرفة - كما كان للقمة الثلاثية نصيب من احزاني إذ وجدت اننا "مطالبون" وان "علينا" ان نطبع علاقاتنا مع إسرائيل وكأننا لسنا طبيعيين اذ ننفر من دولة غاصبة ومعتدية، تجاهر بمساندة الولاياتالمتحدةالأمريكية وبعض الدول الغربية، بأن احتلالها لاراضينا ليس مستمرا فقط.. بل سيزداد وان القدس "عروس عروبتنا" تغتال أمام ناظرينا ونحن نقف عاجزين، بل مطلوب منا ان نكون "طبيعيين؟!" من وجهة نظرهم بألا يفترسنا الحزن وأولي القبلتين وثالث الحرمين تحت سطوة العصابات الصهيونية من المستعمرين اليهود الذين يدنسون الحرم الشريف في حماية جيش العدوان.. ولا أحد يجرؤ ان يقول للرئيس الأمريكي باراك أوباما ان مسرحية "استئناف" المفاوضات قد اعيتنا وأن "الشروط المسبقة" التي يريد منا التنازل عنها هي استعادة الحق والعتق من الاحتلال والاذلال وفق كل الشرائع والقوانين الدولية.. هل يعقل أن يُطالب الواقع تحت الاحتلال والقهر ان يتنازل عن حق مشروع باعتباره شرطا مسبقا؟.. وعلي أي اساس تدور اية مفاوضات ان لم يكن لبلوغ الهدف الاوحد والوحيد بالجلاء عن اراضينا المحتلة؟ ولماذا لم يوجه هذا الطلب لنتنياهو الذي يضع عشرات "الشروط" التعجيزية والتي إذا ما قبلنا بها فإننا لانكون "طبيعيين" بجميع المقاييس.. ان أكثر ما يغيظني هو ترديد هذه الخدعة الخسيسة "التطبيع".. إذ انه من الطبيعي ان نقاوم الاحتلال وان نعادي الدولة المحتلة. وانتقل إلي ما آل إليه الوضع في جميع التليفزيونات العربية التي خربتها "عشوائية" الاعلانات، فسممت علينا الاستمتاع بأي عمل فني في رمضان الماضي بحيث اصبحت أهرب من كم الاعلانات الرهيب والمتكرر الذي يبدأ بالمشروبات الغازية وينتهي بالتسول وانتزاع "الدموع" علي مصير الايتام والفقراء والمرضي وكأننا في دول بلا حكومات ولا مشاريع بنيوية أو وطنية أو قومية ولم يعد أمامنا إلا "الاستهلاك" الفج.. أو "انتخاب" الجمعيات والمنظمات الخيرية التي لولاها ما أكل جائع وأقول.. أكل.. وليس شبع- أو عولج مريض أو روعي يتيم.. اختلطت الادوار وتاه منا الطريق.. فتضاءلت أحلامنا إلي حد مجرد الحصول علي "شنطة" يتدافع الفقراء بصورة مهينة للفوز بها.. وكل رمضان اطرح سؤالي الذي أراه منطقياً: لماذا لا نأخذ بالحكمة الصينية القائلة: بدلا من ان تعطيني سمكة.. علمني الصيد، فنضع كل ما ينفق علي الشنط والموائد في انشاء مصانع أو حتي مشروعات صغيرة تحفظ للناس كرامتهم وتضع حدا لثقافة التسول التي "تسمح" بإنجاب المزيد من الاطفال لإطلاقهم في الشوارع وطلب "الإحسان" بصورة ابعد ما تكون عن الكرامة الآدمية.. .. اعذروني إذ اشرككم في احزاني السبتمبرية ولكن لدي فرحة في هذا الشهر الذي ولد فيه استاذنا الكبير الكاتب الصحفي والمفكر محمد حسنين هيكل الذي أتمني من الله ان يمتعه بالصحة ويغمره بالسعادة أولا لشخصه ولأسرته وثانيا حتي ننهل من عطائه وعلمه الغزير وقبل كل ذلك من أمانته المثالية تجاه الكلمة، فهو نموذج نادر بشكل عام علي مستوي العالم حيث تلعب بالنفوس والرؤوس عوامل عديدة من ثروة إلي سطوة أو نفوذ ولكن الاستاذ عصي علي كل المغريات أو الصعوبات وهو شاهد موثوق فيه تماما ولا يبخل علينا بجهد حتي لا نضيع وتضيع معنا أجيال في متاهات احاديث الإفك التي كثرت وتتكاثر.. أشعر مع كل شمعة جديدة يوم مولده.. انه أكثر اضاءة لنا وأروع بريقا وأشد اخلاصا للشعب وقضاياه.. كل سنة وانت طيب يا أستاذ.. وكل سنة وانت فرحة لنا..