عندما أقرأ الصحف، أو أتابع الفضائيات ينتابني كم كبير من الحزن والأسي الممزوج بالألم والمرارة، وأخاف كرب أسرة علي مستقبل أبنائي وبناتي، فالصورة التي ترسمها صحافتنا ضبابية وشديدة السواد، وما ينشر عن آمال وخطط لتحسين الأوضاع لا يحس به الناس،ولا يشعرون به وسط مرارة معاناتهم الشديدة. كل يوم في الجريدة، وفي نشرات الأخبار، قتل وخراب ودمار في كل شبر، دماء أنهار، في فلسطين والعراق، وفي كل الديار. قنابل ومدافع، رصاصات غدر، يطلقها العدو والصديق، الحرب بين الشقيق والشقيق، تاه الطريق. البندقية طاشت رصاصاتها، والعين غامت أهدافها، والعقل جنت أفكاره، والمركب غاب ربانه، البحر عواصف، والريح قاصف، يكسر كل شراع،والشارع بحر غريق، جب عميق، سجن من غير سجان، الإنسان أصبح جان، مارد قناص، يحصد أرواحاً، يزرع ألماً وجراحاً.وبكاء ونواحاً. يطفئ نور اليوم،يقتل روح الغد، يبني سدود الصد، يدفن روح الود في بحور الدم. الأخ صلب جسد الأخ، دق في قلبه المسمار، أشعل في عينيه النار، الراعي أكل الغنم وما ندم، القاتل في جنازة المقتول ماشي،واشي بين الأحباب، راشي الكل قريب وبعيد، يسرق حق يتيم وفقير، وفي كل مناسبة حاوي خطير، ساحر فاجر، يسرق الكحل من العين، ويدق أسافين البين، بين كل أثنين. الحق ضاع، والظلم شاع، والجوع جوعان، و البطون الخاوية في الشوارع سارحة، بين القمامة، والندامة، صبيان وبنات، رجال وسيدات، قصص وحكايات،" سويسي وتوربيني وبقو وبزازة" ولسان الحال،الكل سؤال:ليه ولماذا؟ الإجابة سهلة،في كلمتين: عدل وحرية، عدل عليه الدنيا قامت، اسم الله العادل، أعطي الكل بميزان حق، رزق الطير في السماء والدود في الحجر، في البحر وعلي الشجر، في السهل والجبل، رحمته وسعت كل شيء، رحمان ورحيم، والعبد ما يرحم.ينهب حق الغير وما يفعل خير. والحرية أخت العدل التوأم، كل الناس أحرار أولاد آدم، في الحرية الخير، بناء، تعمير، وسلام للغير، تقول ما تخاف، كلمة حق، تقيم العدل، تنير الليل، تنهي الويل، تفتح نهر الخير، يعم الكل، تبني أماناً، يضم غنياً وفقيراً، الكلمة سلاح يحارب الظلم، يحيي ضميراً، يمنع أهوالاً، يحفظ أموالاً، في بنوك مسروقة، ومشاريع مسلوقة، ومهرجانات تهريج، والشارع يغلي، سرقة وخناقات، ومرور زحمة في كل الأوقات، وشباب ضائع، وشيوخ شاخت قبل الزمن بزمان،عدل وحرية، تعلي الأوطان وتعود الفرحة ونعيش في أمان. واحة العدل المفقود والأمر المحير أن هذه الأوضاع منتشرة في بلادنا العربية والإسلامية، التي كان من المفروض أن تكون واحة العدل وجنة الله علي الأرض، لأن تطبيق تعاليم ديننا الحنيف كفيلة بتحقيق ذلك بالفعل، ووطننا العربي غني بمقدراته وثرواته. ورحم الله الشيخ الإمام" محمد عبده" عندما زار باريس وقال" وجدت في الغرب مسلمين ولم أجد إسلاما،، وأري في بلاد الشرق أسلاما ولم أجد مسلمين"، فالكثيرون منا مسلمين بالاسم وفي بطاقات الهوية، ولكننا أبعد ما نكون عن تعاليم الإسلام، لأننا لو عملنا بها ما بقي بيننا جائع ولا عريان ولا عاطل ولا عانس، ولا محتاج أو مريض. والغريب أنه بالرغم من أن الله سبحانه وتعالي رزقنا بالثروة، إلا أن البعض منا لا يستخدمها في الموضع الصحيح ومن أجل خير الناس والمجموع، ولكنهم يحولون ثرواتهم إلي معاول هدم وسموم تنشر الأمراض في الأجساد، وتشيع الفاحشة بين الناس، وبدلا من أن تبني مستشفيات ودور علم ومصانع، أنشأوا الملاهي والمساخر، وأفسدوا النشء، واشتروا الأجهزة الفاسدة، وتاجروا في السموم، فتحولت الثروة بفضلهم إلي نقمة علي شعوبنا. ولم يكتفوا بذلك، فحدث أبشع وأفظع وأقبح نوع من الزواج في عصرنا الحديث، وهو زواج المال بالسلطة، الذي أثمر حالة من الفساد والإفساد،، والانهيار في الكثير من المرافق التي كان من المفروض أن تكون في خدمة الناس، فأصبحت وبالا ومقابر لهم، وليس حادث العبارة وأكياس الدم الفاسدة التي زودت بها المستشفيات، وغيرها من حوادث الفساد ببعيد، التي لولا قضاؤنا النزيه وبقية من ضمير، ورجال شرفاء مازالوا بيننا ما عرفنا عنها شيئا. وكلما قرأت أو سمعت عن فساد بعض أصحاب الأموال، ترحمت علي زمن كان فيه الأغنياء هم بناة المستشفيات وملاجئ الأيتام ودور إيواء العجزة والمسنين، وكانوا هم رعاة العلم والمتعلمين، وهم الذين أرسلوا البعثات واهتموا بالعلماء، ورجعت بالذاكرة إلي المسلمين الأوائل الذين كان كل ما يملكونه من مال لصالح الأمة والمجتمع، هكذا كان "أبو بكر الصديق وهكذا كان "عثمان بن عفان" وغيرهما، لأنهم كانوا يعلمون أن المال مال الله وأنهم مستخلفون فيه، ولا أعرف لماذا لا يكون أثرياؤنا مثل مادونا وأوبرا وينفري والراحل مايكل جاكسون؟ سر العبقرية وعظمة الشعب المصري،وسر عبقريته هي أنه شعب قادر علي العيش والتعايش مع كافة الظروف الصعبة التي تمر به،يعرف المصريون كيف يواجهون مشاكلهم دائما بابتسامة، ويجيدون فن التأقلم والتكيف مع الآلام. أوراق البردي، وأحجار المعابد وواجهات المسلات تاريخ شاهد علي تفوق المصريين وقهرهم لظروفهم الصعبة، هذا الشعب تسكنه روح التحدي، وترسم تضاريس حياته إرادة مياه النيل، التي حفرت حياتها وسط الجبال والصخور، روح النيل حلت في أجساد المصريين، منذ ولد النهر وأصبح عفيا، أبناء النيل رغم قسوة الظروف وبعد المسافة بين صخور أسوان والأقصر، بنوا الأهرامات، التي ستظل شاهدا حيا علي مر الأزمان لعظمة وعبقرية هذا الشعب. مهما حاول أعداء الحياة حصار أبناء النيل واحتلال بلادهم، ومهما طالت عهود الظلم والاستبداد، تري المارد يصحو من جديد، ينشر العلم والنور، ويعلن أنه أكبر من كل محنة،وأقوي من كل جبروت، جاء نابليون، ومن بعده الإنجليز، ومن قبله المماليك والعثمانيون، وسبقهم الفرس والرومان، وزالوا جميعا وانتهت ممالكهم، وبقي المصريون، لم تتغير طباعهم،ولم تلن قناتهم، ظلت حياة المصريين تجري بالخير والنماء كما النيل يجري من المنبع حتي المصب. ورحم الله العبقري"جمال حمدان" الذي تتجسد فيه عبقرية مصر والمصريين،فقد كانت حياته ومؤلفاته_وكل أبحاثه ودراساته، حتي وفاته المأساوية كانت حدوتة مصرية، كتبتها جغرافية وتاريخ هذا الوطن، الذي عشقه وكرس حياته لتخليده،فقد آمن بعبقرية "مصر"التي قال عنها:"أبوها التاريخ وأمها الجغرافيا، ومن كان هذا نسبه،فلابد أن يكون عظيما،وهكذا دائما مصر." ومع كل هذه العظمة، تقسو "مصر" أحيانا علي عشاقها وأبنائها الشرفاء المخلصين، فرغم كل هذا العشق عاني "حمدان" من أبناء محبو بته أمر المعاناة، تعرض هذا العالم إلي"الضرب تحت الحزام"وكان هدفا لمؤامرات الانتهازيين والوصوليين والمزورين من أدعياء العلم. ويشارك "حمدان" في معاناته الكثيرون من عشاق مصر، الذين لا يعرفون أنصاف الحلول،ولا يجيدون أساليب التملق والنفاق، العاملون في صمت وبعيدا عن كاميرات التصوير. وحتي تظل "مصر" وتعود كما كانت "عبقرية الزمان والمكان" لابد أن ترتفع أسهم البناة الحقيقيين، وعشاق "مصر" المخلصين، وأن تنتهي هيمنة الأدعياء، وبهلوانات المهرجانات والمؤتمرات الو رقية وعشاق الأضواء، الساعين إلي المناصب والعاملين من أجل المكاسب، والرافعين للشعارات في كل المناسبات والآكلين علي كل الموائد.فهم أخطر علي مصر، وعلي كل شعب من العدو الخارجي.