في زمن لم تسلم علاقة الانتماء بين المواطن وبلده من المزايدة والتشكيك، وتحت وطأة أوضاع حياتية ومعيشية وسياسية لم تنج قيم المواطنة والولاء فيها من التشوش والتآكل والغموض، لا يسع المرء حينما تتاح له فرصة لزيارة دولة شاسعة ومترامية الأطراف مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية أو العيش فيها، تجول بخاطره أفكار متنوعة وتعصف بذهنه تساؤلات شتي، لعل من بينها كيف يتسني لما ينيف علي المائتين وتسعين مليون إنسان يتوزعون علي خمسين ولاية متنوعة المناخ والأوضاع المعيشية الحياة معا في ولاء تام للولايات التي يقطنها كل منهم وانتماء لا يقبل المزايدة أو التشكيك للوطن الأم المتمثل في الولاياتالمتحدة، التي يتسم نظام الحكم وإدارة الدولة فيها بلا مركزية شديدة، حيث تعد كل ولاية بمثابة دولة مستقلة بذاتها لها عملها الخاص ونظامها الخاص في كل شيء وبما لا يتعارض مع الدستور العام الجامع للولايات المتحدة برمتها، عدا السياستين الخارجية والدفاعية اللتين تعتبران من اختصاص واشنطن . ويطرح السؤال نفسه بكلمات أخري مؤداها: كيف يجمع المواطن الأمريكي بين انتمائه الأول للولاية التي يعيش فيها وبين ولائه للولايات المتحدة، التي ربما ينتهي به العمر ولا يطوف ولاياتها الخمسين أو حتي يزور عاصمتها الفيدرالية واشنطن، من دون أن يتعارض أي منهما مع الآخر أو يصاب المواطن بشيء من الحيرة والتشويش؟! وقد لا تحتاج الإجابة علي مثل هذه التساؤلات المركبة سوي لزيارات إلي المؤسسات السياسية ومراكز الحكم في واشنطن العاصمة وسائر عواصمالولايات فضلا عن الأماكن الأثرية والتاريخية والنصب التذكارية المنتشرة في كل بقاع بلاد العم سام، والتي دأب الأمريكيون علي تدشينها في كل مكان لأهم رموزهم علي مختلف الأصعدة أو تخليدا لذكري أهم الأحداث والمحطات السياسية والثقافية الفارقة في تاريخهم غير البعيد. وهنالك، يتجلي بيت القصيد، إذ يحرص الأمريكيون علي تعزيز الانتماء وغرس الثقافة السياسية وتجذيرالمشاركة السياسية لدي أطفالهم وأجيالهم الصاعدة ومهاجريهم الجدد عبر وسائل عديدة، أبرزها الزيارات التي تتم بشكل دوري ومنتظم وجماعي للمؤسسات السياسية والأبنية الحكومية الخاصة بمراكز اتخاذ القرار وتسيير شئون الاتحاد أو الولاية كمبني البيت الأبيض والكونجرس "الكابيتول" والمحكمة الدستورية العليا والوزارات المختلفة في العاصمة واشنطن وضواحيها، وكذا البرلمانات ومراكز الحكم والإدارة في الولايات . ومما يلفت الانتباه في هذا المضمار،أن تلك الزيارات تتم بالتنسيق بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات من جانب وإدارة المدارس والجامعات والأندية والجمعيات الأهلية من جانب آخر، بحيث تتم علي أعلي مستوي وتتاح فرص المشاركة فيها والاستفادة منها لأكبر قطاع ممكن من أبناء المجتمع الأمريكي في جميع الولايات، بدءاً من طلاب في شتي المراحل التعليمية وبأعداد غفيرة،مرورا بالمسنين والمحاربين القدماء والمتقاعدين ثم العاملين بمختلف قطاعات الدولة الأمريكية. كما تتيح برامج تلك الزيارات للزائرين والوافدين فرصا لحضور بعض الجلسات التي لا تناقش قضايا أمنية بالطبع في الكابيتول الفيدرالي أو برلمانات الولايات، فضلا عن إمكانية الإلتقاء ببعض النواب والمسئولين فيها، من أجل التعرف علي طبيعة الممارسة السياسية وآليات العمل علي المستوي البرلماني علي نحو يعين الزائرين علي إدراك أهمية المشاركة السياسية. وإلي جانب المشرفين المصاحبين للرحلات والوفود الطلابية، والذين يتولون عمليات الشرح التفصيلي والتعريف الواضح والميسر بالأماكن التي يزورونها، هناك أفلام تسجيلية ووثائقية رائعة تعرض داخل قاعات عرض مجهزة ضخمة في كل مبني، أعدت بعناية فائقة بحيث تشرح بشكل دقيق وجذاب جميع التفاصيل الخاصة بالمؤسسة التي يزورونها، من حيث تاريخ نشأتها والغرض من إقامتها ووظيفتها في النظام السياسي الأمريكي وأهميتها بالنسبة للأمريكيين وكيفية أدائها لدورها، علاوة إلي تبيان الخدمات التي يمكن أن تقدمها للمواطنين والزائرين، فضلا عن أفضل السبل التي يمكن للمواطنين من خلالها التعامل معها والاستفادة منها علي الوجه الأكمل. وإلي جانب الإرشاد والأفلام الوثائقية والتسجيلية، هناك كتيبات يتم وضعها بإشراف المؤسسات الآنفة الذكر للقيام بذات الغرض، توزع مجانا علي الزوار حتي يتسني لهم الاحتفاظ بكم هائل ومفيد من المعلومات عن الأماكن التي قاموا بزيارتها مرفق بها المواقع الإلكترونية الخاصة بتقديم جميع الخدمات المعلوماتية والمهنية عن تلك الأماكن كيما يمكنهم الرجوع إليها كلما احتاجوا لذلك. ولا يقتصر هذا العمل التثقيفي والتوعوي المبهر علي المؤسسات الحكومية الرسمية فحسب وإنما يمتد ليطال المناطق الأثرية والنصب التذكارية المقامة للشخصيات التاريخية والسياسية التي أسهمت في بناء وإنجاح التجربة الأمريكية، كرؤساء أمريكا السابقين، والشخصيات الأمريكية المهمة في جميع المجالات والذين لعبوا دورا مهما في مراحل مهمة من تاريخ الولاياتالمتحدة كجورج واشنطن أول رئيس منتخب، وأبراهام لينكولين محرر العبيد، وهيمنجواي ومارتن لوثر كينج وغيرهم كثيرون. وإلي جانب ذلك، عمدت الدولة الأمريكية أيضا إلي طباعة كتيبات تعريفية بالمؤسسات السياسية وبالعملية السياسية خصوصا الانتخابات ونظامها وكيفية المشاركة فيها علي كل المستويات، علاوة علي قصة حياة الرموز السياسية والشخصيات المهمة للتعريف بمدي إسهامهم في إثراء التجربة الأمريكية موضحة للأجيال الجديدة كيف تسني لأولئك الرواد، الذين جاءوا من المجتمع بكل فئاته، التغلب علي الصعاب وتطويعها لتحقيق طموحاتهم وخدمة وطنهم وإثراء تجربته . وأذكر أنني أثناء وجودي في أمريكا دعيت لمشاهدة مبارتين لكرة السلة،التي تعد الرياضة الأولي في أمريكا إذ تحظي بشعبية جارفة، كانت أولاهما في ولاية ميتشيجين حيث كان فريق ميتشيجين ينازل فريق كونيكتيكيت، وفاز الأول بفارق معقول وأثناء المباراه أذهلتني عواصف التشجيع الحارة التي لم أر مثلها إلا في الدرجة الثالثة بملاعب كرة القدم المصرية التي تعج بعشاق ومجانين الساحرة المستديرة. والشيء ذاته تكرر في مباراة أخري حضرتها في مدينة بورتلاند بولاية أوريجون التي تقع في أقصي الشمال الغربي حيث المحيط الهادي غربا والحدود الكندية شمالا بين فريق أوريجون وفريق أوكلاهوما، حيث فاز الأول أيضا بفارق كبير. وفي كلتا الحالتين، كانت الجماهير بشتي فئاتها العمرية والمهنية تترقب المباراة قبل أن تبدأ بأيام ويعلقون أعلام الولاية علي سياراتهم ومنازلهم. وبعد المباراة، يبتهج الجميع ويعبرون عن سعادتهم بالفوز حتي ساعات متأخرة من الليل. إنها بحق لوسيلة رائعة من أجل ترسيخ دعائم المواطنة وتعميق جذور الانتماء لدي الأجيال الجديدة، يندر أن تجد في دول كثيرة بالعالم الثالث، أو أن تحظي،إن وجدت، بذلك القدر الكبير من الجدية والاهتمام اللذين توليهما الإدارة الأمريكية لمثل هذه الأنشطة التوعوية والتثقيفية لصغار السن والراشدين في آن.فكم من مبان حكومية كالبرلمانات والوزارات ودواوين الحكم علي سبيل المثال محظور علي قطاعات كبيرة من المواطنين والعامة ليس فقط الدخول إليها وحضور جلساتها والتعرف علي ما يجري بداخلها أو الالتقاء ببعض من فيها من المسئولين أو ممثلي الشعوب أو الموظفين فحسب، وإنما حتي مجرد الاقتراب منها. وكم هي أيضا آلية ناجعة للتعاطي مع ظاهرة ذبول الانتماء وتصدع الولاء لدي قطاعات واسعة من الشباب وصغار السن في زمن العولمة، الذي أفضت عولمة كل شيء بما في ذلك الأزمات الاقتصادية والسياسية والحروب إلي تشكيل ضغوط هائلة علي الأجيال الجديدة كان لها وقعها المرير علي شعورهم بالانتماء والولاء لأوطانهم في ظل مستنقع البطالة والفقر والإحباط الذي يعيشون فيه علي نحو أسفر عن اتساع الفجوة بينهم وبين حكوماتهم وأصابهم بالاغتراب عن ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.وأحسب أن ثمار هذا النهج في التربية السياسية لا تقتصر فحسب علي تعزيز الانتماء وإنما تمتد لتطال تفعيل المشاركة السياسية لأنه يسهم أيضا في القضاء علي شبح السلبية والأمية السياسيتين اللتين حالتا دون انخراط قطاعات واسعة من المواطنين في العمل السياسي.