التطرف في جانب من جوانبه هو ان تنكر وتتنكر للواقع من حولك، وهو الواقع الذي صنعته الناس عبر عصور طويلة، وذلك من أجل ان يتحقق لهم واقع مغاير من صنعك أنت، واقع لا يعرفون شيئاً محددا عن ملامحه أو قواعد الحياة فيه، وإذا كان كل المفكرين الاصلاحيين في كل مراحل التاريخ يعملون علي تغيير الواقع من حولهم إلي ما يرونه الانفع والافضل والأكثر خيرا وعدلا، غير انهم في سبيل ذلك لا يدينون المجتمع ككل بل اجزاء منه، بمعني انهم يعملون علي زيادة مساحة الخير فيه وتقليل مساحة الشر إلي حده الأدني الذي يمكن الوصول إليه. أي انهم يلقون بالمزيد من الأضواء علي مناطق الخير في العقل والنفس البشرية وفي البيئة المحيطة وذلك من أجل اقناع الناس بالحرص عليها والابتعاد عما يفسدها من افكار خاطئة أو سلوك ضار.. هكذا نري أنهم لا يدينون الواقع باكمله ولا يطلبون اقتلاعه من جذوره، بل يعملون علي تقويته وتنقيته بالحذف والإضافة وبالاحلال والتبديل ليزداد قوة وتماسكا وخيرا وعدلا. أما المتطرف الأرضي أو السماوي، فتركيبته النفسية تجعله يري الواقع بأكمله شرا مطلقا لابد من القضاء عليه من أجل اقامة واقع مثالي جديد يخلو من الشر ولا ينضح إلا بالخير حيث تكتسب الناس فيه سمات ملائكية، وبالتجربة وبخبرة التاريخ، سنري أن المتطرف عندما ينجح في مسعاه، فهو ينجح فقط في تحويل المجتمع ليس إلي جنة علي الأرض بل إلي قطعة ملتهبة من الحجيم. ولكل زعيم من زعماء التطرف أدواته الفكرية التي يعمل بها علي حشد الناس لتحقيق الهدف المنشود وهو الخير المطلق أو العدل المطلق أو العظمة المطلقة كما كان الحال في حكومة الرايخ الثالث في ألمانيا النازية. سيتربع الزعيم علي عرش قلبك ويستولي علي عقلك بأفكار ساحرة جميلة، ومنها.. أنت أعظم مواطن علي وجه الأرض.. أنت تنتمي لأعظم جنس عرفه التاريخ.. تنتمي لأعظم أمة.. هيا اتبعني لكي نثبت ذلك كله للعالم.. سنثبت للعالم ان ألمانيا فوق الجميع.. هكذا مشت الأفكار النازية في طريقها لتصنع حربا مروعة يقتل فيها عشرات الملايين وينتهي الأمر بأن تدوس أحذية الجنود من العالم كله الأرض الألمانية. الأفكار المتطرفة ينقصها التواضع، هي تصدر أحكاما بإعدام الواقع غير قابلة للاستئناف أو النقض وذلك لثقة صاحبها ويقينه بامتلاكه للحقيقة المطلقة، وامتلاكه أيضا للحق بالتحكم في مصائر البشر من أجل ما يتصور ان فيه الخير لهم. وهنا نأتي لنفس التركيبة النفسية عند المتطرف السماوي ونقصد به ذلك المفكر الذي يستمد أدواته من تعاليم السماء من أجل تحقيق نفس الهدف وهو القضاء علي الواقع الذي تم تكوينه علي الأرض، غير انه وهو في طريقه لتحقيق ذلك ستكتشف بسهولة انه عاجز عن الشك ولو بقدر ضئيل في طبيعة ما يفكر فيه وما يدعو إليه، إذا ان عقله عاجز عن ممارسة النقد، من المستحيل ان يسأل نفسه: هل عندما ننتزع من الدولة كما حدث في اقليم سوات في باكستان علي سبيل المثال الموافقة علي تطبيق الشريعة.. هل سيتم تطبيقها بشكل عادل؟.. هل ستكون الناس اقل تعاسة مما هي عليه الآن؟ وعندما نختلف أنا وزملائي حول تفسير بعض الأجزاء من هذه الشريعة.. من سيكون مسئولاً عن حسم خلافنا بغير ان نذبح بعضنا البعض. لن يسأل نفسه هذا النوع من الأسئلة، كما انه بالقطع لن يشعر بالارتياح لحصوله علي موافقة البرلمان علي تطبيق الشريعة في اقليم واحد.. لابد من تطبيقها في كل باكستان.. وليس في باكستان وحدها.. بل في كل بلاد العالم.. واجبه كمسلم يحتم عليه ذلك. وهنا نصل إلي فهم أخطر عنصر في التركيبة النفسية للمتطرف، القلق الهستيري، هو عاجز عن الشعور بالطمانينة، عاجز عن الشعور بالرضاء، وبذلك تكون رغبته في القضاء علي الواقع مصدره خوفه منه وشعوره بغربته عنه وعجزه عن التوافق معه والاشتراك في صنعه. هو يشعر بألم دائم المفعول، لا شيء علي الأرض سيخفف من ألمه أو شعوره بالقلق، لقد بدأ السير في طريق لانهاية له، وهنا يبدأ في التدخل في حياة الآخرين، بهدف معلن هو تغيير واقعهم، لقد تمكن من تغيير واقع مجتمعه هو كما حدث في إيران، غير انه لم يحقق لهم شيئاً مما وعدهم به فلا يتبقي له إلا تحويل افكارهم إلي الخارج حيث الامبريالية العالمية، وهو نفس ما فعله من قبل حكام الاتحاد السوفيتي. هكذا يجد الحاكم الثوري المتطرف نفسه في جانب والعالم كله في الجانب الآخر، من المستحيل علي الحاكم المتطرف صاحب الأفكار الأرضية أو السماوية ان يكون علي علاقة طيبة بالآخرين، لأنه اصلا عاجز عن اقامة علاقة طيبة مع نفسه نظراً لما يشعر به من قلق غير قابل للشفاء. من الممكن ان يتحالف مع أطراف أخري، ولكن ذلك يحدث فقط بهدف العدوان علي طرف ثالث.. هل عرفت الآن لماذا تتدخل إيران في حياة المصريين؟